عقب هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001، تعاظمت الأطروحات الثقافية لإصلاح الديانة الإسلامية المسكونة بالعنف حسب الأطروحة الاستشراقية في ظل تصاعد موجة المحافظين الجدد حيث جرى البحث عن إسلام ليبرالي معتدل يعمل كجدار حماية ضد "الإرهاب" الإسلامي وقد راهنت مخازن الأفكار وبيوت الخبرة ودوائر السياسة الغربية على بناء تحالف ليبرالي غربي إسلامي يعمل على دعم وإسناد نمط من الإسلام الصوفي والإسلام السياسي الملبرل للقضاء على التطرف الإسلامي، وبهذا فقد دعم الغرب عموما والولايات المتحدة الأمريكية خصوصا التجربة الإسلامية الأندونيسية ونظيرتها التركية التي تبلورت من خلال حزب العدالة والتنمية وحليفه حركة الخدمة.
لم يكن ممكنا للتجربة الإسلامية التركية أن تتجسد دون التموضع داخل ثلاثية الليبرالية والإسلام والإرهاب، ففي ظل عولمة نيوليبرالية جعلت من الإرهاب الإسلامي عدوها اللدود أمكن التحالف مع صديق ليبرالي إسلامي محدود، لكن تلك المقاربة لم تكن موضع إجماع فالأطروحة الاستشراقية الراسخة كانت لا تزال تتمسك باستحالة الجمع بين الإسلام والليبرالية باعتبارهما ينتميان إلى عالمين مختلفين فالأكاديميين ذوي وجهات النظر الليبرالية القديمة الذين ينكرون تماماً وجود حركات مرحلة ما بعد الأسلمة، أمثال بسام الطيبي ينحازون إلى الفهم الأخلاقي بدلا من الفهم العملي لتحول ما بعد الأسلمة فبحسب الطيبي لقد أجل حزب "العدالة والتنمية" هدفه المتمثل في ترسيخ أجندته الإسلامية فحسب لكنه لم يتخل عن هدفه، فهي مجرد مسألة تكتيكات والتفاف خطابي لا ينطوي على تبني مخلص للتعددية الديمقراطية.
شكلت الانتفاضات العربية 2011 التي جاءت بالإسلاميين إلى الحكم لحظة فارقة بعودة المنظور الاستشراقي الصلب وتراجع المنظور الثقافي، إذ هيمنت مقولات الجوهرانية واستحالة الجمع بين الإسلام والديمقراطية وتبدلت النظرة إلى جماعات الإسلام السياسي وما بعده التي سادت عقب 11 سبتمير (أيلول) باعتباره يعمل كجدار واقٍ منيع ضد التطرف العنيف والإرهاب، وتعاظمت نظرية "الحزام الناقل"، التي تتعامل مع حركات الإسلام السياسي وما بعده باعتباره محطة ميسرة للتطرف العنيف والإرهاب، حيث جرى وصف هذه الجماعات بالإرهاب تارة والميسرة للإرهاب تارة أخرى، وعقب الانقلاب على جماعة الإخوان المسلمين وتصنيفها كحركة إرهابية في مصر وملاحقتها في دول أخرى بدأت الضغوطات على حكومة العدالة والتنمية في تركيا واتهمت بدعم الإرهاب ومساندته.
المحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا كانت المحطة النهائية للبرهنة على استحالة الجمع بين الليبرالية والإسلام وتعبيرا عن نهاية نظريات جدار الوقاية وبداية نظريات الحزام الناقل، وهكذا تستمر الرحلة الأبدية في البحث عن إسلام ليبرالي موال للغرب وهو إسلام متخيل يتحرك في المخيال الاستراتيجي الغربي من حركات الإسلام السياسي وما بعده إلى جماعات الإسلام الصوفي مرورا بمؤسسات الإسلام الرسمي، وعلى الرغم من محاولة حزب العدالة والتنمية البحث عن علاقة تصالحية مع القوى الغربية إلا أنها لم تحظ بالرضى والقبول، حيث عملت السياسات الغربية عموما والأمريكية خصوصا على تشجيع التمرد على حكم العدالة والتنمية من خلال مؤسسة الجيش وحركة الخدمة بعد حقبة الثورات المضادة المناهضة للربيع العربي والتي كانت عقب أحداث سبتمبر قد حثتهما على التعاون.
لا جدال بأن حركة الخدمة تحظى بدعم غربي وأمريكي فمن خلال اعتمادهم على أفكار غربية مبسطة حول الصوفية باعتبارها الإسلام "المتسامح"، روج زعماء الحركة التسويق للجماعة كبديل معتدل عن تنظيم القاعدة والحركات الجهادية فبعد يوم واحد من هجمات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001، نشر غولن إعلانا من صفحتين في صحيفة "نيويورك تايمز" يقول فيه إن "الإرهابي لا يمكن أن يكون مسلما، كما لا يمكن أن يصبح المسلم الحق إرهابيا"، وكان الإعلان يحمل رسالة واضحة، فقد كان غولن الذي يعيش في الولايات المتحدة منذ عام 1999، دائم الانتقاد لمساعي تحويل الإسلام إلى ما أطلق عليه "وسيلة للهيمنة على الناس" فيحسب غولن الإسلام "دين اعتقاد وصلوات وأخلاق طيبة" يتوافق تماما مع التقاليد الديمقراطية الغربية.
في سياق تحولات ما بعد الانقلاب على الربيع العربي وبروز الجهادية الجديدة وصعود تنظيم الدولة الإسلامية باتت الضغوطات على التجربة الإسلامية التركية شديدة وتنامت الحملة الغربية ضد حكم العدلة والتنمية وأصبح أردوغان المتهم الرئيس بدعم الإرهاب وبناء دكتاتورية إسلامية، وعلى الرغم من سخافة تلك الاتهامات إلا أنها وجدت من يتماهى معها في الداخل التركي وباتت حركة الخدمة رأس الحربة في البرهنة على مصداقية الإدعاءات على مذهب "وشهد شاهد من أهلها" التي تمخضت عبر سلسلة من الفعاليات بدءا من المظاهرات التي انطلقت في شهر أيار/ مايو 2013 على خلفية خطط تطوير "حديقة غيزي" في اسطنبول والتي كشفت عن تنامي نزعة ليبرالية ملونة تتحدى الحكم السلطوي المزعوم لأردوغان وصولا إلى محاولة الانقلاب الفاشلة في 15 تموز/ يوليو 2016 تحت ذريعة حماية الديمقراطية وصيانة حقوق الإنسان.
صورة أردوغان وحزب العدالة والتنمية عقب الثورات المضادة للربيع العربي في الغرب وأمريكا كانت تنهل من معين الاستشراق فعقب المظاهرات وصولا إلى الانقلاب بات أردوغان قرينا لهتلر وحزب العدالة نظيرا للحزب النازي، وبدلا من مناهضة الانقلاب وإدانته بات الحديث عن دكتاتورية وسلطوية أردوغان موضة وثيمة لازمة وبدا الأسف واضحا على فشل الانقلاب وعدم نجاحه، وعاد الجدل حول الإسلام والليبرالية والإرهاب إلى سيرته الأولى.
في كتابه الأخير "الإسلام في الليبرالية" يفنّد الصديق العزيز المفكر جوزيف مسعد هدف حملات التبشير الليبرالية وسعيها الدؤوب إلى نشر قيمها بين المسلمين تحت ذريعة تخليصهم من الاستبداد والتعصب وكراهية للنساء، ويشير إلى الملاحظة الثاقبة للإنثروبولوجي الكبير طلال أسد بأن "المهمة الليبرالية تقتضي إعادة تشكيل الإسلام ليكون على شاكلة المسيحية البروتستانتية الليبرالية، وفي حال رفض المسلمون أهداف هذه الحملة، والتحوّل طواعية إلى الليبرالية، عندها يجب استخدام القوة العسكرية"، ذلك أن رفضهم يعني التصدي للحداثة والقيم الليبرالية والحرية والمساواة والفردانية والمواطنة وحقوق المرأة، والحريات الجنسية وحرية المعتقد والعلمانية والعقلانية، كما أن مقاومتهم تشكل تهديداً لقيمة جوهرية من قيم الليبرالية، وهي عالميتها وضرورة تعميمها كالعولمة، ويبدو أن ما حدث في تركيا لم يخرج عن هذه السردية الاستشراقية وفعاليتها وممارستها الاستراتيجية.
ما حدث في تركيا من محاولة انقلاب لا يخرج كثيرا عن وجهة النظر الكلاسيكية لعدد من المستشرقين بأن عداء الإسلام للرأسمالية سيترك تبعات سيئة على الديموقراطية وعلى النمو الاقتصادي، وكما بيّن مسعد فإن موقف الليبراليين والمستشرقين مما أطلقو عليه "الاستبداد الشرقي" لا يعدو عن كونه ذريعة استخدمت لتبرير الاستعمار الأوروبي لآسيا وأفريقيا، وكما أكد مسعد فإن الغرب يسيء للإسلام عبر إسقاط صفات الإرهاب والقمع والديكتاتورية والظلم والاضطهاد عليه، ومن ثم القول إن هذا الإسلام يشكل النقيض التام لليبرالية في الدول الغربية.