تعرضت تركيا مساء الخامس عشر من يوليو إلى هجوم شنه عليها جمع من الإرهابيين الغولينيين، الذين لم يحسبوا حساب إرادة الشعب التركي، فلحقت بهم الهزيمة.
بحلول مساء الخامس عشر من يوليو شهدت تركيا أخطر هجوم إرهابي في تاريخها.
كانت تلك هي المحاولة الثالثة للغولينيين للاستيلاء على السلطة. كانوا في السابع من فبراير (شباط) 2012 قد حاولوا اعتقال حاكان فيدان رئيس جهاز الاستخبارات الوطني (إم آي تي)، ثم بعد ذلك في السابع عشر وفي الخامس والعشرين من ديسمبر 2013 استهدفوا حزب العدالة والتنمية، ومن ثم استهدفوا رئيس الوزراء رجب طيب إردوغان في انقلاب قضائي، جرى التنسيق له مع شبكة من رجال الشرطة ووكلاء النيابة والقضاة.
وهذه المرة وقع هجوم خططت له شبكة من الضباط الغولينيين داخل القوات المسلحة التركية، حاولوا من خلاله استهداف حزب العدالة والتنمية والرئيس إردوغان بل والبلد بأسره.
وفي وقت متأخر من الليل، حلقت مقاتلات من طراز إف 16 فوق البرلمان التركي، رمز إرادة الشعب، وكررت التحليق على ارتفاعات منخفضة فوق البرلمان محدثة قنابل صوتية، في تلك الأثناء وردت أخبار بأن الجسرين الممتدين فوق مضيق البوسفور أغلقا بواسطة مجموعات من الجنود.
وبينما كان الناس يحاولون فهم ما الذي كان يجري، وقع الاستيلاء من قبل ضباط غولينيين على المقرات الرئيسية لهيئة الأركان والعديد من المؤسسات الحكومية، واحتجز رئيس هيئة الأركان رهينة. بعد ذلك مباشرة، ظهرت مقدمة البرامج في قناة التلفزيون الوطنية المملوكة للدولة وهي تتلو بيان الانقلاب بصوت ضعيف ومرتبك، واتضح أنها إنما كانت تفعل ذلك تحت تهديد السلاح.
أعلن الجناة، الذين أطلقوا على أنفسهم اسم “لجنة السلام في الوطن”، أنهم سيطروا على مقاليد الأمور في البلاد، وأن الأحكام العرفية تطبق في كل أرجائها. كانت تلك أكثر المحاولات تنظيما في تاريخ البلاد بهدف إقامة حكم عسكري، وكانت تنطبق عليها خواص الهجوم الإرهابي كافة.
كان رد فعل الناس والسياسيين على حد سواء سريعا؛ فأعلن الزعماء السياسيون سواء من المعارضة أو من بين من يؤيدون الحكومة بأنهم سيقاومون الانقلاب. تجاهل الناس إعلان الأحكام العرفية ونزلوا إلى الشوارع في مواجهة مع الجنود والدبابات، دفع هذا التحدي الذي أظهره عمومُ الناس الغولينيين إلى التصعيد، فأقدموا على قصف البرلمان للمرة الأولى في التاريخ باستخدام طائرات مقاتلة تركية.
تعرض الناس لإطلاق النار عليهم من قبل الجنود. وتشير التقارير الأولية إلى أن ما يقرب من 200 شخص ماتوا بينما أصيب ما يقرب من ألفين آخرين بجروح. لكن ما لبث رد فعل الناس أن كسر إرادة المهاجمين، وانتهى الأمر بأسره في الساعات الأولى من الصباح، عندما ألقي القبض على المهاجمين الواحد تلو الآخر.
توقفت تركيا بمجرد أن وصلت حافة الهاوية، ولو أنها مضت قدما لانهارت وهوت في واد سحيق. ثمة تعليمات تفصيلية تم الكشف عنها من خلال جهاز نوتباد يعود لأحد الضباط، عثر عليه داخل عربة عسكرية استولى عليها الجمهور، وكان من أوائل هذه التعليمات ما يقضي بتخريب سيارات الإسعاف وعربات الإطفاء وسيارات المجالس البلدية، بما يهدد تحويل البلد بأسره إلى سجن هائل، ولعل هذا يكشف عن مدى الكراهية والجنون الذي حفز الإرهابيين الغولينيين على التحرك. إلا أن الانقلاب تم إحباطه بأيدي رجال ونساء ذوي ضمير وعقل وخلق.
الذين نظموا هذا الانقلاب من داخل الدولة هم أناس حفزهم على ذلك كرههم لحزب العدالة والتنمية وللرئيس إردوغان، لم يكونوا على وعي بمدى انفصالهم عن الواقع الاجتماعي والسياسي في البلاد، بل كانوا في حالة من الغياب عما يجري في تركيا وفي العالم، ولقد استخفوا بإرادة الشعب في الإصرار على الخيار الديمقراطي وعلى تسوية حسابات الانقلابات السابقة، كما استخفوا بأربعة عشر عاما من حكم حزب العدالة والتنمية، وظنوا أن بإمكانهم الاستمرار في النهج نفسه من الانقلابات العسكرية، التي كانت تشهدها تركيا حتى باتت نوعا من التقليد المستمر.
لقد وقف المجتمع بالمرصاد للمحاولة الانقلابية الغولينية، هذا في الوقت الذي ظن فيه الإرهابيون أن بإمكانهم فتح النار على الناس وقصف البرلمان الوطني بالقنابل. لقد جلبوا بأنفسهم نهايتهم، بل لقد تجاوزوا مجرد القيام بانقلاب عسكري، إذ سعوا إلى احتلال البلاد من الداخل.
لقد أقامت الغولينية وزعيمها فتح الله غولين شبكة بواجهة دينية، خطابها مؤسس على التسامح والقيم الديمقراطية والليبرالية، وتكافح ضد أشكال الوصاية والهيمنة العسكرية كافة، لقد كانت منظمة ذات نشاط تعليمي داخل تركيا وفي 130 بلدا آخر.
الغولينية في داخل تركيا وكذلك في جميع الأقطار الأخرى، عبارة عن آلية تستثمر في رأس المال البشري من خلال القيام بنشاطات تعليمية، بهدف إعداد أجيال تتكون بشكل أساسي من العسكريين ورجال الشرطة ووكلاء النيابة والقضاة وعناصر المخابرات. بنت الغولينية هذه الآلية حول كيان ديني ينادي بالسلم العالمي وحوار الأديان، رؤيتها النهائية تتمحور حول إقامة دولة وهيمنة مهدوية عالمية، تتطلع إلى أن تصبح فلسفتها الدينية هي الحقيقة المطلقة التي تسود الكون.
إلا أن إنجازاتهم خلال الأعوام الثلاثة الماضية وما حققوه يوم الخامس عشر من يوليو (تموز) 2016 يرسم صورة أصح وأدق لما تعنيه الغولينية.
وكما هو الحال بشأن المكونات المشبكة، ثمة تناقض وتهافت يتعلق بهوية الغولينية. لقد بدأت دعوة مهدوية تعد أتباعها بالجنان ثم انتهت بممارسة الإرهاب، تصادمت النظرية لديها بالتطبيق لدرجة أنها وجهت البنادق إلى صدور شعبها وانتهى بها المطاف إلى أن ترتكب هجوما انتحاريا.
كان المراقبون للسياسة في تركيا يسمعون مرارا وتكرارا مصطلح الدولة العميقة في التسعينيات، أكثر العقود دمارا في تاريخ الأمة التركية. باتت التكلفة الباهظة للانقلاب العسكري الذي وقع في عام 1980 واضحة بحلول منتصف الثمانينيات، ووصلت التكلفة ذروتها قريبا من الثامن والعشرين من فبراير (شباط) 1997، حينما قام الجيش بما يسمى “انقلاب ما بعد الحداثة” للإطاحة بالحكومة المنتخبة ديمقراطيا، وارتكب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان.
فقد عشرات الآلاف من الناس حياتهم خلال تلك الفترة المائجة، وما نتج عن ذلك كان الإفلاس السياسي والاقتصادي للنظام الذي يقوم على الوصاية، ثم جاءت الانتخابات البرلمانية التي جرت في الثالث من نوفمبر (تشرين الثاني) 2002 لتفتح فصلا جديدا، عندما شكل حزب العدالة والتنمية أو حكومة تتكون من حزب واحد منذ الثمانينيات.
إلا أن الدولة العميقة كانت أكبر من تلك الأنظمة التي وجدت في التسعينيات. استمرت الدولة العميقة من خلال العصب التي سعت بشكل مباشر وفعال للتدخل في عمل الحكومة وسياستها، بهدف ترسيخ نفوذها على المسؤولين المنتخبين. خلال التسعينيات عملت الدولة العميقة بالوكالة من خلال لاعبين من حقبة الحرب الباردة، ولذلك فقد اعتمدت بشكل مكثف على منظمات من نمط “عملية غلاديو” وعلى جرائم القتل وعمليات الاغتيال التي لم تتوصل العدالة إلى مرتكبيها.
يشير مصطلح الدولة الموازية اليوم إلى منظمة الدولة العميقة التي تشتغل ضمن جهاز الدولة، في حين كانت الدولة العميقة فيما مضى تنظم داخل الجيش وأجهزة فرض النظام والقانون، بحيث تتعاون مع القوات شبه العسكرية، فإن الدولة الموازية المعاصرة تمكنت بشكل فعال من تحديث وتطوير عملياتها، وتمددت داخل جهاز الأمن وفي المخابرات وداخل السلك القضائي.
في الماضي، في التسعينيات، لم تكن الدولة العميقة تحتاج إلى سلطة قضائية، وذلك نظرا لأن المحاكم آنذاك كانت تغض الطرف عن جرائم القتل وعن غيرها من النشاطات الإجرامية، إلا أن التحول السريع نحو الديمقراطية في فترة ما بعد عام 2002 أفقد الدولة العميقة القدرة على العمل وتركت الدولة الموازية المعاصرة بلا خيار سوى إحلال الاعتداءات العنيفة محل الإجراءات القضائية.
تولت حركة غولن منذ ذلك الوقت زعامة الدولة العميقة، وعززت من نفوذها الذي ما فتئت تبنيه ببطء داخل أجهزة إنفاذ القانون وفي داخل السلك القضائي منذ مطلع الثمانينيات.
وصلت السلطة التشغيلية للحركة ذروتها في أثناء فترة نضال إدارة إردوغان ضد نظام الوصاية، وذلك حينما استهدف المدنيون أذرع الدولة العميقة داخل القوات المسلحة. خلال هذه الفترة، استغلت الأذرع الغولينية داخل أجهزة إنفاذ القانون وداخل السلك القضائي الفرصة لاستبدال الدولة العميقة بالدولة الموازية التابعة لهم.
وبمجرد ما أن بدأت الدولة الغولينية الموازية بالعمل بمساعدة الأعضاء التابعين لها داخل أجهزة إنفاذ القانون وضمن وكلاء النيابة والقضاة، تمكنت المنظمة السرية من التغلغل في مستويات الحكومة كافة. تعاظمت قدرتهم على النمو ووصلت إلى مستويات رفيعة غير مسبوقة، عندما منعت إدارة إردوغان العسكر من التدخل في الانتخابات الرئاسية التي جرت في عام 2007.
وبالطريقة نفسها، عززت حركة غولن من نفوذها بشكل كبير خلال محاكمات إرجينيكون، عندما قدم نظام الوصاية العسكري إلى العدالة. فيما بعد، توجه الغولينيون ضد عناصر حزب العمال الكردستاني الذين ينشطون في المدن كجزء من محاكمات اتحاد الجاليات الكردستانية –التي تبين فيما بعد ألا علاقة لها تذكر بحزب العمال الكردستاني. أصبحت الأجندة الغولينية واضحة المعالم عندما حاول نشطاء الحركة إلقاء القبض على رئيس وكالة المخابرات فيدان؛ بحجة مشاركته في منظمة اتحاد الجاليات الكردستانية.
حينما تحركت الحكومة للتعامل مع قضية الدولة الموازية الغولينية، قوبل تحركها بردود فعل قوية من قبل أجهزة إنفاذ القانون والسلك القضائي من خلال عملية 17 ديسمبر، حينما استُغلت العشرات من ملفات بعض القضايا غير ذات العلاقة لتبرير عمليات الاعتقال، وأثارت الشكوك حول وجود محاولة للإطاحة بالحكومة.
بعد أسبوع واحد فقط، في الخامس والعشرين من ديسمبر، استهدف التحرك التالي بشكل مباشر رئيس الوزراء وشارك في محاولة انقلابية مكشوفة. سعت حركة غولن، من خلال فتح النار على الحكومة، إلى استخدام مزاعم الفساد لإسكات مسدس ساخن. وذلك هو التاريخ المختصر لحركة غولن وللجهود التي بذلوها لتشكيل دولة موازية، مستعينين بعصابات داخل أجهزة إنفاذ القانون وداخل السلك القضائي.
لقد خسر الغولينيون في المواجهة مع حقيقة طالما أصروا على رفض الاعتراف بها. إنها حقيقة المجتمع وحقيقة تركيا الجديدة التي اصطدموا بها. لقد لقوا وهم يعكفون على طي سجل تركيا القديمة نفس مصير كل مهاجم انتحاري، وانتهوا إلى تدمير ذاتهم. وهذا هو بالضبط ما حدث في ليلة 15 يوليو (تموز). والآن، آن للعالم بأسره أن يفهم وأن يتعلم دروسا من حقيقة الإرهاب الغوليني الذي واجهته تركيا خلال الأعوام الثلاثة الماضية.