لقد اختفى الرئيس في قمة أزمة سياسية تتعلق بمستقبل البلد وفي مناسبة دينية مهمة تعود الرؤساء فيها الظهور والتهنئة البرتوكولية للشعب. لقد اختفى من المشهد العام دفعة واحدة. طرح السؤال بشكل ساخر ولا مانع من بعض الجدية المضافة. ماذا لو مات قبل نهاية المدة؟ هذه ليست رغبة في موته لكنه تتبع سياسي وقانوني للاحتمال دون خبرة استشرافية.
هل البلد مستعد لتحمل انتخابات رئاسية قبل أوانها؟ وأعني الكلفة المادية والسياسية. وماذا أعد لها السياسيون خاصة وكيف نخوض انتخابات باقتصاد ميت؟ البعض طرح سؤالا مختلفا: ماذا نفعل بالرئيس في نظام برلماني؟ البعض قال ساخرا: لعلنا نقتصد بعض الرواتب.
لكن في بلد محكوم بشكل الدولة لا بمضمونها لابد من تعمير القصر بأي شكل. لقد وضع القانونيون بصمتهم في روح الدولة حتى صار شكلها القانوني أهم من منتوجها الديمقراطي.
المسألة أكبر من احترام الدستور شكلا..
لقد غطى الدستور هذه الاحتمال وهو أمر بديهي عند نخبة تغلب الثقافة القانونية الشكلية على حركة الواقع، وقد نشأت تعدل المجتمع بالنصوص القانونية قبل الفعل الواقعي. لذلك لا يخشى من فراغ إجرائي وترتيبي لملء الفراغ الشكلي في صورة شغور المنصب بالموت قبل نهاية المدة. إنما الخشية من غياب مرشح يملأ العين ليملأ المنصب. الساحة فارغة من رجل طُلْعَة. الساحة معدمة إلا من بورقيبيين صغار جدا.
وتقديري الراهن وبناء على معرفتي بنوايا الطامحين إلى المنصب وهم ظاهرون في الصورة فإنه يمكن أن نتوقع خروج أكثر من 100 مرشح يرون في أنفسهم الكفاءة لقيادة البلاد. أما من أين جاؤوا؟ فكرم اللوز التونسي ليس مسيجا بالأشواق والكبد، بل محفوف بالنوايا الصغيرة لشخصيات صغيرة لها طموحات الضفادع في مضاهاة الطبول.
إن ما جمع النخب السياسية التونسية (المتصدية للشأن العام) ويجمعها هو النظرة البورقيبية إلى الكتلة الناخبة بصفتها كمية بشرية قابلة دوما للخداع بالخطاب الانتخابي الفهلوي القادر على تحويل قرية تونسية خارج التاريخ إلى جينيف مزهرة. لقد أوهمتهم الثورة الصغيرة وتجربة الحكم بعدها أن السلطة أقرب إلى أيديهم من زجاجة ماء عند العطار يكفي أن يتقنوا أكاذيب البداية. وهنا يظهر خطر الانتخابات الفجائية الناتجة عن اختفاء الرئيس قبل موعده. إذ لا بديل في الأفق.
لا أحد في الصورة يملأ العين
التونسيون عينهم واسعة وقد ازدادت اتساعا بقليل من الحرية. إنهم شعب متطلب بحق وبباطل. لقد عانوا كثيرا من تسلط بورقيبة، وأجهز بن علي على رغباتهم في تغيير ساستهم بالانتخاب (قال شاعر لهم ذات يوم وقد احتفل بعيد ميلاده: بلغت الأربعين برئيس واحد). أعطتهم الحرية المكتسبة أملا في تغيير الرؤوس والقادة لكنهم طبخوا عظام شاة الأضحية طمعا في مرق بورقيبي، فازدادوا إحباطا فلا أخلص الرئيس المنتخب لبرنامجه الانتخابي ولا هو بنى تحالفا سياسيا مبدئيا مع خصومه تحت عناوين المصالحة والتجاوز. لذلك فأداؤه خيب ظنهم بسرعة خاصة وهم يرونه على جانبي الخصومة القائمة بين من صوت له ومن صوت ضده، يسعى لإعادة بناء أسرته الخاصة والتمهيد لابنيه بالسياسة لتملك الثروة (الموقع الاجتماعي) ثم الموقع السياسي كثمرة له.
أما بقية الموجودات السياسية فتبدو بلا أفق عبقري (وأقول الموجودات لأن الأسماء الظاهرة ذات الطموح تؤثث مشهدا دون تغييره).
زعماء صغار في السن (وهو نقطة قوة) ولكنهم صغار في الفكر (وهو عائق قاتل) فلم يعرف عنهم طموح علمي ولا إنتاج فكري مكتوب أو منطوق، ومستواهم الأكاديمي محدود جدا (حملة إجازة) وفيهم كثير لا يجيد التعبير الشفوي عن مكنون نفسه.. فضلا على أن علاقاتهم السياسية بالخارج منعدمة فهم زعماء أحزاب محلية لا تجمع ألف شخص في اجتماع عام، إلا أن يحصلوا على تزكية السفارات العنيدة ولهم فيها قنوات اتصال. وإذا تنافسوا بطريقة انتخابات 2014، فإنهم سيعدمون كل أمل باق في التغيير السياسي الديمقراطي لأنهم يعدمون علاقة الناس بالسياسة.
هذا فضلا على أن مواقفهم السياسية الداخلية يشقها الصراع الإيديولوجي المقيت. فهي موجودون بغيرهم لا بأنفسهم، أي أنهم يحددون وجودهم ودورهم مع الإسلاميين أو ضدهم. فمن كان مع الإسلاميين فهو معهم يمن عليهم حق الوجود مقابل كتلتهم الانتخابية (على غرار السيد نجيب الشابي وبن جعفر وهما زعيمان منتهيا الصلاحية، إكسبايرد). أما البقية الباقية فتتودد للنهضة (الحزب الإسلامي) من أجل شيء ما قد يكون السند الانتخابي إذا أزفت الفرصة. لكنهم يعرفون والنهضة تعرف وهم يعرفون أنها تعرف أن مثل هذا الإسناد يجعل منهم خاتما في إصبعها وهم يريدون ثقلها للتصويت ولا يريدون خدمتها بالمنصب.. بما يجعل التفاوض معها فاشلا قبل البدء فيه.
لقد اجتهد الرئيس المرزوقي في كسر هالة السلطة المتجبرة (فقاسه الجمهور على صورة الدكتاتور في مخيلاتهم المضطهدة) فكسره تواضعه الذي صوره الإعلام المعادي له كتنازل عن القوة بلا موجب. فذهب التواضع بالمتواضع وفشل الرجل في أن يكون دكتاتورا. وربما يعسر عليه الآن (رغم أنه أعلن تخليه عن كل طموح للمنصب) صعود ربوة السلطة بالتحول ضد أخلاقه إلى دكتاتور يملأ عين الراغبين في الخضوع فلا يتصورون الرئيس إلا جبارا عنيدا (وقد ظهرت منذ أيام دعوة من أحد أحزاب السلطة إلى إلغاء المؤسسات وإرساء الدكتاتورية الرومانية لإعادة بناء الدولة بخلفية أن أحد مخربي الدولة هو تواضع رئيسها ذات يوم).
من لهذا البلد المسكين الآن؟
هذه ليست سخرية سوداء ولكن الباجي هو الرئيس الضرورة الآن على الأقل حتى نهاية المدة (2019). يوجد احتقان اجتماعي كبير في تونس. فلقد تأخرت الحكومات جميعها عن الاستجابة لمطالب اجتماعية مجمع حولها شعبيا. نكتب أحيانا أن هذا الاحتقان هو خميرة ثورة دامية ستفرض التغيير. لكن الثورة أقرب إلى التمني منها إلى الحقيقة. فالشارع ليس واحدا والانفلات ليس مطلبا جماعيا. وإلا لكانت الثورة دفعت فعلها إلى إسقاط النظام برمته يوم 14 كانون الثاني/ يناير (جانفي) وما بعده.
توجد طبقة شعبية مفقرة بلا زعامات وتوجد طبقة وسطى نصفها زعامات سياسية. وهي الطبقة التي اعترضت مسار الثورة فكسرت موجتها. وليس لأحد خيال باهر لتنظيم فوضى ثورية والخروج بنظام جديد. بدأ باليسار الثوري المتبرجز الذي يتشهى ولا يفعل. أليس اليسار ونقابته هما من أخرج الباجي من الأرشيف وعينه رئيس حكومة بعد اعتصام القصبة؟
التغيير الثوري ليس هواية تونسية عبر تاريخ البلد (فهم من شعوب البسائط بالتعريف الخلدوني). لذلك ضخموا شكل الدولة ليحتموا به كما يحتمون بزوايا الأولياء الصالحين. أما المضمون فتحكمه قاعدة بسيطة عندهم (تمسك بالمشؤوم الذين بين يديك أفضل لك من مشؤوم أشد شؤما).
تبدو تونس الآن محتاجة إلى شبح الرئيس، ولو أكلت الأرضة عصاه وذلك لضرورات صرف رواتب الطبقة الوسطى وجيش الموظفين الحاضرين في مكاتبهم بالغياب، ويكفيهم ذلك من الدولة.. أليست الدولة هي الجدار الذي يدقون فيه مساميرهم؟
الرئيس لم يمت ولكن بديله لم يولد... لقد عقم الزعماء السابقون رحم البلد.