مقالات مختارة

الصينيون يودّعون سياسة الطفل الواحد .. ولكن...

1300x600
حينما كنت أدرس في الولايات المتحدة لنيل دبلوم التخصص في الشأن الآسيوي إلحاقا بدرجة الماجستير طلب مني البروفيسور الأمريكي أن أختار موضوعا له علاقة بإحدى الدول الآسيوية وأكتب فيه بحثا مطولا، فأعددت بحثا تحت عنوان "من سيطعم الصين في الألفية الثالثة؟". إذ كانت هناك وقتذاك مخاوف من احتمال حدوث مجاعة في الصين بسبب التزايد المستمر في معدلات الزيادة السكانية، وتقلص نسبة الأراضي المنتجة للغذاء مقابل زيادة مساحة الأراضي المستخدمة في الإنتاج الصناعي.

وكما هو معروف فإن الصين استطاعت أن تتفادى المجاعة بسبب عدة عوامل، من بينها نجاحها في كبح جماح الانفجار السكاني عن طريق تطبيق "سياسة الطفل الواحد"، أو ما عـرف رسميا باسم سياسة "تنظيم الأسرة في جمهورية الصين الشعبية". 

هذه السياسة التي عدها نشطاء حقوق الإنسان اعتداء على حرية الفرد وخصوصياته وخياراته، فيما تطرق آخرون إلى جوانبها السلبية الكثيرة، على الرغم من أن السلطات الرسمية حاولت امتصاص الغضب الجماهيري عبر سلسلة من الاستثناءات مثل استثناء الأسر في المناطق الريفية المحتاجة إلى الأيدي العاملة الكثيفة، واستثناء بعض الأقليات العرقية ضمن الأثنيات الخمس والخمسين، واستثناء الأمهات والآباء الذين ليس لديهم أشقاء أو شقيقات. وحينما كانت بكين على وشك استعادة كل من هونج كونج ومكاو إلى سيادتها في أواخر تسعينيات القرن الماضي، قررت أن تستثني هاتين المنطقتين أيضا من سياسة الطفل الواحد.

صحيح أن الصين نجحت عبر تطبيق هذه السياسة في تخفيض عدد سكانها بنحو 250 مليون نسمة -طبقا للبيات الرسمية- لكنها لم تنجح في القضاء على الآثار السلبية العديدة التي أوجدتها وعلى رأسها اختلال نسبة الذكور إلى الإناث، وتزايد عدد المسنين ممن لم يعودوا قادرين على العمل، وجنوح صينيات كثر إلى الإجهاض السري عند اكتشاف حملهن للطفل الثاني أو جنوحهن إلى الإكثار من تناول أدوية الخصوبة أملا في إنجاب التوائم، وقيام أسر كثيرة بشراء صمت المسؤولين المحليين عبر تقديم الرشاوى المالية والعينية، بل خرق كبار المسؤولين والمتنفذين أنفسهم لسياسة الطفل الواحد.

وقبل عدة سنوات قامت الأكاديمية الصينية للخدمات الاجتماعية بقرع ناقوس الخطر معلنة أن الإبقاء على تلك السياسة لن يقلص نسب الشباب فحسب، وإنما سيؤدي بحلول عام 2020 إلى مشكلة غير مسبوقة تتمثل في عدم العثور على زوجات لأكثر من 24 مليون صيني. بعدها نـشرت عدة دراسات وأبحاث أجمعت كلها على أن الصين في طريقها كي تصبح أول دولة مصابة بالشيخوخة في العالم.

ويبدو أن هذه الإنذارات التقت مع رغبة الحزب الشيوعي الحاكم في القيام بإصلاحات اقتصادية للحيلولة دون تباطؤ الاقتصاد أو على الأقل المحافظة على معدلات نموه الحالية، فكانت النتيجة إلغاء "سياسة الطفل الواحد" على دفعتين من بعد تطبيقها لأكثر من ثلاثة عقود متواصلة.

ففي كانون الأول (ديسمبر) 2013 قرر مجلس نواب الشعب رفع الحظر عن إنجاب الطفل الثاني إن كان أحد الزوجين هو وحيد أسرته. وخلال المؤتمر الخامس الموسع للجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني المنعقد في تشرين الأول (أكتوبر) 2015 تقرر تطوير ما سبق إعلانه في عام 2013، والتخلي نهائيا عن سياسة الطفل الواحد. 

وهكذا صار متاحا اليوم أمام أي زوجين صينيين إنجاب الطفل الثاني دون أن تطبق ضدهما عقوبات كتلك التي كانت مطبقة في الماضي مثل الحرمان من جميع حقوق المواطنة بما فيها الانتخاب والاستفادة من الخدمات العامة كالتعليم والطبابة، أو إخضاع الزوجة للإجهاض الإجباري، أو فرض غرامات مادية كبيرة ترهق كاهل الأسرة.

على أن المشاكل التي أوجدتها سياسة الطفل الواحد لا يمكن أن تنتهي بالتخلي عنها، خصوصا أن التخلي عنها جاء متأخرا جدا أي بعدما تفاقمت آثارها السلبية إلى حد كبير. فإصلاح ما خلفته من اختلال جندري ومعاناة وحرمان وأذى نفسي وإهدار للمال قد لا يتحقق، أو أنه يحتاج إلى فترة زمنية طويلة ليتحقق، خصوصا إذا ما أخذنا في عين الاعتبار أن الأسر الصينية، ولا سيما في المدن الكبيرة، قد تتخلى عن حقها القانوني في إنجاب طفل ثان بسبب التكلفة العالية لتربيته وضغوط الحياة والعمل في العصر الراهن. ومن هنا لا يزال موضوع سياسة الطفل الواحد وآثارها السلبية، والقرار القاضي بإلغائها محل نقاش في أوساط الصينيين حتى هذه اللحظة.

بعض المحللين الصينيين تطرق، في معرض تعليقه، إلى الحرمان الذي فرضته الدولة على الأزواج، متسائلا -بلغة ساخرة- عما إذا كان بمقدور الحزب الشيوعي اليوم تعويض مئات الملايين من الناس عما فاتهم وهم في مستهل شبابهم في خمسينيات القرن الماضي؟

عن صحيفة الاقتصادية السعودية

الأكثر قراءة اليوم
الأكثر قراءة في أسبوع