كتب محمد خضر عريف: مَن منَّا لم يصدمه منظر الشاب الفلسطيني الذي انهال عليه جنود الصهاينة برصاص كالمطر وهو ملقى أرضا، وأخذ ينتفض كالعصفور تحت وابل الرصاص الآثم حتى همد، وفاضت روحه على مرأى ومسمع من جميع الناس الذين كانوا حوله، دون أن يحرك أحد ساكنا، حتى إذا قضى نحبه وأزيحت جثته، جاء من يكنس تحتها ويمسح الدم، وكأننا في "مسلخ" أو "مجزرة" يُذبح فيها الخرفان أمام الناس في منظر يومي معتاد، ثم ينظف المسؤول عن التنظيف الدماء بعد ذبحها برتابة ودم بارد، فهي معدة للذبح كل يوم.
هكذا الفلسطينيون أصبحوا معدين للذبح كل يوم، ومشهد الفلسطيني وهو يُقتل الذي بثته الجزيرة بعدما التقطت عن طريق المصادفة، عُرض في كل الفضائيات حول العالم، ولم يُحرِّك أحد ساكنا، وأصبح أمرا متعارفا عليه ومقبولا عالميا أن يحق لإسرائيل أن تُردي أي فلسطيني لمجرَّد الاشتباه بأنه يحمل سكينا، أو أنه سيحاول طعن مستوطن أو جندي.
وقبل سنوات ليست كثيرة إبان الانتفاضات الفلسطينية المتتالية كان العالم كله "ينتفض" لمجرد استخدام جنود العدو للرصاص "المطاطي" أو "البلاستيكي"، كما يسمى، وكان العدو يتحرج من ذلك كثيرا، أما الآن فله أن يذبح ويسلخ ويحدث عشرات الثقوب في أجساد الفلسطينيين كما يحلو له.
فما الذي تغيَّر؟ وما الذي حدث؟ حتى أصبح الدم العربي والإسلامي عموما والدم الفلسطيني رخيصا إلى هذا الحد، وكأن العالم كله، وأقولها آسفا، بات يتعامل مع العرب خاصة تعامله مع قطعان الماشية.
الذي حدث أن العرب (أنفسهم) أصبحوا يتعاملون مع (أنفسهم) بهذه الطريقة، فلِمَ لا يعاملهم بقية الناس بهذه المعاملة؟ وكما قال الشاعر: من يهن يسهل الهوان عليه، ولا يحتاج الأمر إلى تدقيق نظر، فما شهده شعب سوريا المظلوم من تقتيل وتعذيب وتهجير وتشريد خلال أقل من خمس سنوات يفوق بمرات كثيرة ما تعرض له الشعب الفلسطيني خلال ما يزيد عن سبعين عاما، وما يفعله النصيري الأفاق بالعرب والمسلمين في أرض الشام ومعه كسرى وقيصر وجوقة الباطنية لا تجرؤ إسرائيل على فعله بالفلسطينيين، رغم كل بطشها وجرائمها.
وأمام هذا الفجور العلوي النصيري في الشام، تصبح الفظائع الإسرائيلية كعبث الصبية ولا يلتفت إليها أحد، بعد أن شُغل العالم كله بعشرات الجبهات المفتوحة في سورية، واحتمال قيام حرب عالمية ثالثة، وتدفق اللاجئين بالملايين على أوروبا والعالم أجمع، وسوى ذلك من القضايا التي أصبحت في جملتها أكبر من قضية فلسطين مئات المرات.
ذلك من جهة، ومن جهة أخرى فإن عددا من المتصهينين العرب أخذوا يدعون دوما إلى تقوية العلاقات مع إسرائيل على كل الأصعدة: السياسية والاقتصادية والثقافية والرياضية، بل والتعليمية، إلى درجة تنشئة الأبناء على تفهم وتقدير إسرائيل، ووصل الأمر ببعض هؤلاء المتصهينين إلى تمجيد رؤساء وزراء العدو وجعلهم في مقدمة القادة في العالم كله، وبالمقابل أصبح التطبيع مع الفلسطينيين في نظرهم جريمة لا تغتفر، وأصبحوا هم الأعداء الذين ينبغي محاربتهم والقضاء عليهم وحصارهم و"رميهم في البحر".
ومن عجب، فإن رأس النفاق في العالم العربي "نصرالله" لا نصره الله، صرح مؤخرا بتراجعه عن فكرة "إزالة إسرائيل من الوجود"، أي أنه اعترف بحقها في الوجود، وهو ما كانت تسعى إليه وما زالت تسعى من زمن طويل، أما أسياده الفرس فامتنعوا تماما عن إدانة أي جريمة صهيونية أو الحديث عن رمي إسرائيل في البحر، كما كانوا يفعلون مسبقا من باب الكذب والتقية؛ لأن اللعب أصبح على المكشوف الآن، وتكشفت كل عوراتهم ومعها نواياتهم الدنيئة.
وختاما، وباختصار شديد، أصبحت فلسطين اليوم كالريشة في مهب الريح، إن لم نقل إن قضيتها قد انتهت على أرض الواقع قبل أن تنتهي على الورق.
(عن المدينة السعودية)