في الثورة على دولة
بني أمية، كان هناك تيار عروبي، يقوده أبو سلمة حفص بن سليمان الهمداني الخلال (132 هـ، 750 م)، ولقد رشح هذا التيار - إبان الثورة - محمد بن عبد الله بن الحسن - النفس الزكية - (93 – 145 هـ، 712 – 762 م) ليكون خليفة للدولة الجديدة، وقدمه وزكاه عمرو بن عبيد (80 – 144 هـ، 699 – 761م) فقال: "أيها الناس، إننا قد نظرنا، فوجدنا رجلا له دين وعقل ومروءة ومعدن للخلافة، فأردنا أن نجتمع معه فنبايعه، ثم نظهر أمرنا معه، وندعو الناس إليه، فمن بايعه كنا معه، ومن اعتزلنا كففنا عنه، ومن نصب لنا جاهدناه ونصبنا له على بغيه، ونرده إلى الحق وأهله".
وكان أبو جعفر المنصور (95 – 158هـ، 714 – 775م) تلميذا لعمرو بن عبيد، فبايع مع أستاذه للنفس الزكية.
وكان في الثورة على بني أمية تيار آخر شعوبي، يقوده أبو مسلم الخراساني (137 هـ، 754م)، عارض التيار العروبي والنفس الزكية، واغتال الخلال، وانحرف بالخلافة الجديدة عن التيار العروبي العلوي إلى التيار العباسي، وبايع لأبي العباس السفاح (104 – 136 هـ، 722 – 754م)، ولقد نقض أبو جعفر المنصور بيعته للنفس الزكية، وتولى الخلافة العباسية بعد أخيه السفاح، ومن هنا جاءت الجفوة بين عمرو بن عبيد - ومعه التيار العلوي العروبي - وبين تلميذه أبي جعفر المنصور، والخلافة العباسية، التي سيطر عليها الشعوبيون، واستمرت سيطرتهم عليها حتى نكبة البرامكة التي حرر بها هارون الرشيد (149 – 193 هـ، 766 – 809م) الخلافة العباسية من سيطرة الشعوبيون.
ولقد حاول أبو جعفر المنصور - وهو المؤسس الحقيقي للدولة العباسية - أن يصالح أستاذه عمرو بن عبيد، وأن يدعوه - هو وأصحابه - للاشتراك في جهاز الدولة - القضاء والولايات - ولكن الثائر الزاهد الفيلسوف عمرو بن عبيد، رفض دعوة المنصور، مشترطا لتلبيتها تحرير الدولة من الشعوبيين - الذين كان يسميهم "الشياطين"!.
وفي نهاية اللقاء الوحيد الذي تم بين المنصور وبين أستاذه عمرو بن عبيد، وبعد حوار طويل، رفض فيه عمرو بن عبيد الاستجابة لطلب الخليفة، أمر المنصور لأستاذه بعشرة آلاف دينار، فقال عمرو بن عبيد: لا حاجة لي فيها، فأقسم الخليفة: والله لتأخذنها، فقال عمرو: لا والله لا آخذها، فقال أحد الحضور لعمرو بن عبيد - مستنكرا -: يحلف أمير المؤمنين وتحلف أنت؟! فتساءل عمرو بن عبيد عن هذا المتكلم، فقال له المنصور: إنه ابني، وهو المهدي، وهو ولي عهدي، فقال له عمرو: والله لقد ألبسته لباسا ما هو لباس الأبرار، ولقد سميته باسم ما استحقه عملا، ولقد مهدت له أمرا أمتع ما يكون به، وأشغل ما يكون عنه!
ثم التفت عمرو بن عبيد إلى ولي العهد وقال له: نعم يا ابن أخي، إذا حلف أبوك أحنثه عمك، لأن أباك أقوى على كفارات اليمين من عمك!
وعندما هم عمرو بن عبيد بالانصراف، سأله الخليفة: هل لك حاجة؟ فقال له نعم، لا تبعث إلي حتى أجيئك، فقال له المنصور: إذن لا تلقني أبدا، فقال له عمرو: هذه هي حاجتي!
فودعه المنصور - وهو ينظر إلى حاشيته – وينشد: "كلكم يمشي رويد .. كلكم يطلب صيد .. غير عمرو بن عبيد"، فكانت شهادة السلطان لمن جعل سلطنة العلم فوق سلطان السلطان.