لا يكاد المرء يصدق أن تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" يستعصي على الولايات المتحدة الأمريكية، بل لا يصدق أن يستعصي كذلك على حلف شمال الأطلسي "الناتو".. مهما كان قوة "داعش" فإنه لن يفوق بأي حال من الأحوال قوة العراق إبان حكم الرئيس صدام حسين.. في أيام قليلة اجتاح الجيش الأمريكي وحلفاؤه العراق ولم تقم له قائمة حتى اليوم. إذن ففي المسألة جوانب أخرى؛ فإن أخذنا بنظرية المؤامرة فهدف القوى العظمى إشعال المنطقة بحروب طائفية لا تبقي ولا تذر، وذلكم هو المحراث الذي يهيئ المناخ لإعادة رسم خريطة المنطقة تحقيقا لمصالح الكبار فقط.
أما وإن أخذنا بتفسير آخر بعيدا عن نظرية المؤامرة تلك، فقد نلحظ أن المنطقة غدت مسرحا لصراع الكبار، روسيا وما يدور في فلكها من جانب والولايات المتحدة وما يدور في فلكها من جانب آخر. وهو صراع مصالح ونفوذ يعيدنا لأجواء صراع المعسكرين؛ الاتحاد السوفييتي السابق، والولايات المتحدة.
ومع كوني مع ترجيح التفسير الأخير إلا أنني لا أستبعد أو أنفي رغبة الكبار في أن تتحول شعوبنا إلى شيع يذيغ بعضهم بأس بعض. بالأمس قال رئيس الوزراء التركي، أحمد داود أوغلو إنّ روسيا تغامر في سوريا من خلال غاراتها التعسفية ضدّ المدنيين، وأنّ هناك احتمال نشوب حرب بينها وبين حلف"الناتو".. وفي الوقت ذاته وافق وزراء دفاع "الناتو" على تعزيز وجود الحلف على طول حدوده الشرقية، وهو خط التماس مع روسيا، بل واعتبر أمين عام "الناتو" أن الموافقة على تعزيز وجود الحلف شرقا يستهدف ردع العدوان الروسي، و"سيبعث برسالة واضحة مفادها أن الحلف سيرد على أي اعتداء على أي حليف".
ووجّه الرجل عقب اجتماع وزراء دفاع "الناتو" انتقادات لروسيا، وحمّلها مسؤولية المساس بالتوازن الاستراتيجي في المنطقة. وقيل إن الولايات المتحدة ستضاعف أربع مرات -حتى سقف 3.4 مليار دولار- النفقات الهادفة إلى تعزيز وجودها في أوروبا، وذلك عبر نشر معدات قتالية ثقيلة (دبابات وقاذفات صواريخ) تلائم فرقة أمريكية قد تصل إلى 20 ألف عنصر.
وإذا ما تركنا صراع الكبار جانبا وصوبنا عدسة المجهر نحو إشكالية تنظيم الدولة، نجد أن "داعش" اجتاح وسط ارتباك دولي وإقليمي شمال العراق وغربه وأجزاء مقدرة من سوريا بشكل مذهل، وأعاد رسم خريطة البلدين. ويرى البعض أن التركيبة الفكرية المعقدة والمختلة التي تشكّل مرجعية تنظيم الدولة، تعرقل جهود القضاء عليه عبر الأداة العسكرية. فضلا عن تناقضات التحالف الدولي والإقليمي وإشكالاته الأخلاقية.
لقد تمددت "داعش" في مساحة غياب الأمن الفكري في المنطقة التي ابتليت بصراع طائفي، هيأ له الأجواء الاحتلال الأمريكي للعراق؛ والأمن وهو الحالة التي يكون فيها الإنسان مطمئنا في نفسه، مستقرا في وطنه، سالما من كل ما ينتقص دينه، أو عقله، أو عرضه، أو ماله. فالأمن الفكري أن يعيش الناس في بلدانهم وأوطانهم وبين مجتمعاتهم آمنين مطمئنين على مكونات أصالتهم، وثقافتهم النوعية ومنظومتهم الفكرية.. وهو كذلك سلامة فكر الإنسان وعقله وفهمه من الانحراف والخروج عن الوسطية، والاعتدال، في فهم الأمور الدينية، والسياسية. ونقيض الأمن الفكري تفرق الأمة وتشرذمها شيعا وأحزابا، وتتنافر قلوب أبنائها، ويصبح بأسهم بينهم شديدا. ويحكي لنا الحاضر والماضي إن من أعظم أسباب اختلاف القلوب وتفرق الصفوف، هو الخلاف العقدي، فيه تُستحل الدماء، وتستعر الحروب.
أكبر مأساة، غياب العقل الجمعي أو منظومة الحكومات ذات العلاقة الوثيقة، بينما يتحرك اليوم نحو خمسين ألف لاجئ سوري في ظروف جوية بالغة القسوة صوب حدود تركيا هربا من القصف الروسي والسوري.. قال وزير شؤون الاتحاد الأوروبي التركي فولكان بوزكير، إن عدد اللاجئين السوريين الذين يتحركون صوب الحدود التركية، قد يبلغ مليون ونصف مليون إذا تم قصف حلب بالكامل. وتستضيف تركيا 2.6 مليون لاجئ سوري.
السؤال ما هي أسباب جسارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وإصراره على موقفه العدواني ضد الشعب السوري دون اكتراث لحلف "الناتو"؟.. فهل من أسباب ذلك كما يشير مراقبون غربيون أن "الناتو" سيكون الخاسر الأكبر في أي حرب مستقبلية مع روسيا؟.. وهل صحيح تراجع الولايات المتحدة أمام روسيا في أوروبا عسكريا؟.. يقول كاتب في مجلة فوربس الأمريكية إنه في حال قررت روسيا مهاجمة دول البلطيق، فيمكنها احتلالها بالكامل خلال 2 – 3 أيام، ولن يستطيع "الناتو" خلال هذا الوقت الاستجابة سريعا باتخاذ قرار منسق، وهذا الأمر يشكل قلقا لواشنطن.
ويشير الكاتب إلى أن الخبراء العسكريين الغربيين يرون أنهم لم يعودوا قادرين على التنبؤ بسلوك روسيا، وذلك بعد الأزمة في أوكرانيا.
عن صحيفة الشرق القطرية