مقالات مختارة

بربرية المدينة العربية

1300x600
كتب مشاري عبدالله النعيم: لفت انتباهي مشهد في أحد الأفلام الأميركية (المجالد Gladiator) يصور المدن في الشرق الأوسط على أنها مدن هامشية وفوضوية في العصر الروماني مقارنة بروما "المدينة الفاضلة".

كانت المدن الشرقية تحمل بعض صور روما بساحاتها وملاعبها، لكنها مدن عبثية لا يحكمها قانون، ولا يوجد بها تحضر، وسكانها "برابرة" ولا يستجيبون للتطور. عندما ينفى أحد من روما يُبعث به إلى إحدى هذه المدن التي تملأها الصراعات وتفتقد الأمن والاستقرار.

ما أشبه اليوم بالبارحة، فالمشهد يتكرر في كثير من تفاصيله اليوم، المدن العربية تحيط بها الفوضى من كل جانب وتبعد كل يوم عن النظام رغم أنها تحاول أن تقلد المدن الأوروبية وتسعى، من حيث الشكل، إلى أن تكون مدنا متحضرة، لكنها في عمقها الثقافي أقرب إلى "المدن البربرية" التي تشعر فيها بالفوضى الإدارية وعدم احترام الناس لبعضهم البعض.

هذه المشاهد تذكرني بدراسة مهمة أجريت على المنطقة العربية في مطلع السبعينيات، أكدت أن المدن العربية تطورت من حيث الشكل، لكنها لم تتطور على مستوى القيم، لذلك ظلت هذه المدن غير آمنة وعديمة الثقافة.

المشهد الذي يعرضه الفيلم السينمائي غير متحامل أبدا، فما زالت بعض الآثار الرومانية موجودة في العديد من المدن العربية، لكن هذه المدن لم تحمل بذور الحضارة الرومانية، ولم تستطع أن تستمر، لأنها في الأصل في بداياتها الأولى تمردت على النظام وعلى التحضر الإنساني، ومن المعروف أن المدينة لا تكمن قيمتها في العمران المادي، بل تتجلى فضائلها في العمران الإنساني، فالمدينة المنورة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم لم تكن تضاهي المدينة الرومانية عمرانيا، لكنها كانت المدينة الأسمى التي تحمل الفضيلة للعالم أجمع.

والمدن العربية بشكل عام في عصورها المختلفة لم تكن رسالتها عمرانية بقدر ما كانت رسالتها إنسانية، وكلما فقدت معنى هذه الرسالة تسقط بشكل ذريع وسريع.

بقاء المدن يكمن في البذور الأخلاقية التي تحملها ومقدرة سكانها على التجدد. هذه البذور هي التي تعيد بناء المدينة عمرانيا وحضاريا وتجعلها في كل طور من أطوار التاريخ قادرة على المنافسة والبقاء. العمران الأخلاقي هو الذي يضمن بقاء المدينة، ويبني "أركيولوجيتها" الإنسانية. الإشكالية هي عندما تتحول المدينة إلى كائن "مقلد" فسرعان ما تتهاوى وتسقط؛ لأنها غير أصيلة الجوهر.

عندما بدأ عصر المدينة العربية رفضت التقليد وبنت جوهرها الأخلاقي والعمراني على أصول عميقة، فاستمرت وصارعت التحولات التاريخية والسياسية، وعندما عادت للتقليد مرة أخرى تحولت إلى تجمعات فوضوية بربرية. عندما قلدت الرومان سقطت، وعندما قلدت الغرب في عصرنا الحالي لم تصبح مقنعة.

من خلال قراءتي لتاريخ العديد من المدن العربية لاحظت أنه كلما ارتقت المدينة عمرانيا تفسخت أخلاقيا، وانتشرت فيها الرذيلة وماعت فيها القيم، وتكون النتيجة النهائية سقوطا مدويا لهذه المدينة وما يتبعها، شاهدنا ذلك في دمشق وبغداد والقيروان وغرناطة وغيرها. 

المشكلة المدينية في حقيقة الأمر ليست في تطورها المادي، بل في منظومة القيم التي يتحلى بها سكانها، وما يبقي أي مدينة ويجددها هو مقدرة من يعيش فيها على تجديد القيم العامة والمشتركة التي تحكم تعاملات الناس في السر والعلن. وما أقصده هنا هو أنه لن يجدينا نفعا أن نبني مدنا بشوارع عريضة ومبان شاهقة، ومن يسكن هذه المدن لا يحترم بعضهم بعضا، فهذا لن يصنع حضارة مدينية يعتد بها.

لأضرب مثالا حصل معي مؤخرا، فقد كنت في مدينة جدة قبل عدة أيام، ومن المعروف أن طريق الملك عبدالعزيز هو أهم شوارع المدينة، وقد تم مؤخرا إلغاء إشارات المرور وعمل فتحات في جزيرة الشارع للدوران للوصول للطريق الرئيسة المتعامدة عليه (الأمير نايف وصاري وغيرهما)، ورغم أن هذا التوجه يمثل خطأ تخطيطيا ومروريا فادحا ويعرض مستخدمي الطريق للخطر؛ لأن نقاط الدوران تقع على المسار السريع، ومجال التباطؤ لا يكفي عدد السيارات التي ترغب في الدوران، إلا أن المشكلة الأكبر تكمن في سلوك السائقين الذين لا يلتزمون بالنظام ويأتون من المسار السريع مباشرة ويقحمون سياراتهم عنوة ويحدثون فوضى، بينما سيارة المرور تقف لتضايق الحركة ورجل المرور داخلها يعبث بجواله ولا يحرك ساكنا.

هذا المشهد غير المتحضر هو الكارثة الحقيقية لأنه مهما أصلحنا الطرق ووسعناها فلن يجدي نفعا طالما أن التحضر الإنساني لم يبلغ النضج بعد.

هذا المشهد يتكرر في كثير من المدن، من يشاهد التكدس عند مداخل طريق الملك فهد في الرياض من المسارات المحلية إلى الطريق الرئيس وثقافة "كل من أيده إيلُه" يشعر بتقهقر الثقافة المدينية وغياب النظام. الطرق فسيحة والمكان يتسع للجميع لكن النفوس ضيقة والعقول أضيق وبالتالي لا يشكل التطور العمراني أي قيمة مدينية حقيقية، بل قد يزيد من وتيرة الفوضى.

المدن العربية "ضيقة الصدر" و"عصبية المزاج" يصعب الربط بين ما تشاهده العين، وقيم الناس. هذه المدن المتناقضة والمترددة تعبر عن حالة ثقافية عمرانية يجب دراستها وفهمها: فهل نحن بحاجة إلى بناء مدن كبيرة متناقضة وغير متجانسة؟

لقد جعلني هذا أفكر في الأسباب التي جعلت آباءنا وأجدادنا يتجنبون بناء مدن كبيرة في الجزيرة العربية واكتفوا عبر التاريخ ببناء مدن وقرى صغيرة متجانسة اجتماعيا وتحكمها أعراف أخلاقية يلتزم بها الجميع.

في اعتقادي أنهم كانوا على وعي كبير بخطورة التناقضات الاجتماعية والقيمية التي تولدها الحواضر الكبرى والتي كانت تتطلب وجود سلطة "قاهرة" تهيمن على سلوك الناس وتوجهها، وربما لم يكن هذا الأمر متاحا في فترات تاريخية طويلة في المنطقة.

ما نعيشه اليوم يؤكد الوضع الأخلاقي الصعب الذي تعيشه مدننا لأنها لم تبن على أسس حضرية وثقافية واضحة.

الخروج من مأزق "بربرية المدن" يبدأ من فرض النظام، فهو البداية التي ترفع من المستوى الأخلاقي، فلا يوجد أخلاق دون سلطة قاهرة، ومن يعتمد على النوايا لن يحصل على التحضر الحقيقي.

فرض النظام له تكاليفه الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية، ويجب أن نتحمل هذه التكاليف إذا ما أردنا أن نعيد تشكّل الثقافة المدينية التي تعتد بالعمران "الأخلاقي" وإلا فكل الإصلاحات العمرانية والتحسينات المدينية والموازنات الضخمة التي تنفق عليها لن تخرج مدننا من "بربريتها"؛ لأن الإشكالية تكمن بالأساس في صدور وعقول من يسكن هذه المدن.