كتب خيري منصور: مقولات كثيرة فقدت صلاحيتها في الزمن المقلوب، منها الكتاب يعرف من عنوانه. وفي الحفلة التنكّرية التي يعيشها العالم في هذه الآونة الحرجة، والأشبه بجملة معترضة في التاريخ، لم تعد الكتب وحتى الخطب تعرف من عناوينها؛ لأن العناوين أصبحت للتضليل، بل هي طعم يتم بواسطته اصطياد القارئ، وبالتالي الرأي العام.
نقرأ على سبيل المثال كتابا عن أزمة سياسية، لنجد أن من يعد بانفراجها وحلها قد أضاف إليها بعدا آخر وساهم في تعقيدها.
أو نقرأ كتابا عن أسباب الخلافات العربية – العربية، لنكتشف أن من وعدنا بتحليلها وتقديم وصفة للحد منها هو أحد أطراف هذا الخلاف، بل يغذّيه دفاعا عن جهة ضد أخرى، بحيث يستحق أن يتقاضى أجرة قبل أن يجف حبره وليس عرقه.
إن أول ما يخطر ببالنا إزاء هذه الظاهرة هو القول المأثور عن فاقد الشيء الذي لا يعطيه، والأرجح أن الفوضى التي سادت في العالم العربي في الأعوام الأخيرة أتاحت للكومبارس أن يؤدي دور البطل؛ لأن الدراما بلا سيناريست وتليق بالفوضى المدمّرة التي أفرزت كل هذا الحصاد من الهشيم.
ومن احترفوا تبرير الأخطاء والدفاع عن استبداد، يلعنونه جهرا ويعشقونه سرا، لا يطيقون البطالة؛ لهذا ما إن يتقاعدوا حتى يبدأوا البحث عن استبداد آخر، لكن بصفة خبراء هذه المرة.
والمسكوت عنه في إحصاءات الخسائر العربية خلال السنوات القليلة الماضية قد يكون أشد خطورة من ثمانمئة مليار دولار، وعشرين مليون مشرد، إنها المفاهيم التي يتم التلاعب بها والثقافة الجديدة التي تسعى إلى تعميم السوفسطائية، بحيث يكون الفرد مقياس الحقيقة والصواب.
لهذا نفاجأ أحيانا بأصوات عبر الشاشات التي تبحث عن علف كلامي على مدار اللحظة من يتصورون أن التاريخ بدأ هذا الصباح، ويذكروننا بما قاله كاتب فرنسي عن الأحمق الذي يظن أنه أول من كتب أو عزف أو غنى، لكن الأحمق أيضا يجد من يصفّق له، وهو الأشد حمقا منه.
الخسائر المادية يمكن تعويضها، لكن ما لا يقبل التعويض هو المفاهيم وأطلال الماضي؛ فالمفاهيم حين تفقد دلالاتها وحدودها تصبح الحقائق كلها في مكان آخر، أما الأطلال التي أعدمت أو وئدت في التراب فهي جريمة الجرائم؛ لأنها تعيد قتل الموتى وتمارس إعداما ضد التاريخ.
(عن الخليج الإماراتية)