شكلت تصريحات ماجد فرج رئيس جهاز المخابرات العامة في السلطة الفلسطينية فضيحة للسياسات التي يقودها محمود عباس، وخلاصتها الإصرار على الاستمرار في التنسيق الأمني مع قوات الاحتلال، ومن ثم العمل على إجهاض الانتفاضة، وهو ما دعا الجبهة الشعبية وحركة الجهاد وحركة حماس لإصدار بيان مشترك يستنكر هذه التصريحات.
لقد تفاخر ماجد فرج في تصريحاته المذكورة بأن الأجهزة الأمنية أحبطت أكثر من مئتي عملية واعتقلت أكثر من مئة كانوا يهمّون بالقيام بعمليات، فضلا عن التصدّي لعدد كبير من محاولات التظاهر، وذلك في الفترة الممتدة من الأول من تشرين الأول/ أكتوبر حتى تاريخ تصريحه في 6/1/2016 أي منذ اندلاع الانتفاضة الثالثة.
عندما عُقِدَ الاتفاق الأمني بالرعاية الأمريكية بين سلطة رام الله والكيان الصهيوني، كانت الحجّة التي سوّغ فيها ذلك الاتفاق بأن تجريد خلايا المقاومة من سلاحها وتصفيتها، ابتداء من كتائب الأقصى وسرايا القدس، سوف يُقنع الكيان الصهيوني بالموافقة على الانسحاب من أراضي الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة، وتحويل السلطة الفلسطينية إلى دولة فلسطينية.
وبالفعل، قامت الأجهزة الأمنية بمطاردة خلايا المقاومة بتصميم وفعالية تفوّقا على الشاباك الصهيوني، وقد زاد عليها تعهُّد محمود عباس بعدم اندلاع انتفاضة وإجهاض كل حراك شعبي يصطدم مع العدو، ولكن النتيجة كانت استفحال الاستيطان والتمادي في تهويد القدس والبطش بالأسرى وأهاليهم، وفشلت المفاوضات، وأعلن محمود عباس فشل إقامة دولة فلسطينية، وفشل حلّ الدولتين، وأصبح الطريق مسدودا تماما، فكان الهروب إلى المنظمات الدولية، وقد فشل كذلك أو تعثّر وسقط أرضا.
ولكن، مع ذلك، استمرّ التنسيق الأمني بالرغم من قرار أصدره المجلس المركزي لمنظمة التحرير بوقف التنسيق الأمني، وها هو ذا ماجد فرج يكشف ويتفاخر أنه أحبط مئتي عملية واعتقل مئة قبل أن ينفذوا عملياتهم.
وعندما عاد محمود عباس من السعودية، أعلن تصميمه على إنهاء "التوتر"، وهذه هي الصفة التي أطلقها على الانتفاضة، وكان قبل أسبوعين قد أسماها هبّة جماهيرية.
وبهذا يكون التنسيق الأمني مطلوبا لذاته، وقد فقد حتى حجّته الأولى. أما الأشدّ هولا فممارسته في ظل انتفاضة تكاد تطوي شهرها الرابع مقدّمة أكثر من 162 شهيدا وسبعة عشر ألف جريح وأكثر من ثلاثة آلاف معتقل، فضلا عن هدم البيوت ومصادرة الأراضي واستفحال الإعدامات في الشوارع.
هل هذا معقول؟
ماجد فرج الأقرب في هذه الأيام من محمود عباس؛ ولهذا لا يقول كلمة واحدة، أو يأتي فعلا واحدا إلاّ ويكون بأمر الرئيس. فالرئيس من هذه الزاوية لا يحتمل أن يخرج أحد من الذين حوله عن الطاعة أو الخط، ولو بينه وبين نفسه، فهنالك رؤوس كثيرة أطاح بها كانت مقرّبة منه لسنوات وعقود، بسبب مخالفة، أو شُبْهة خروج على الولاء المطلق، وما مثل ياسر عبد ربه ببعيد.
نعم، هل من المعقول أن يصل الأمر وفي ظل الانتفاضة، أي في ظل إرادة شبه إجماعية للشعب الفلسطيني، أن يكون لسان محمود عباس ما صرّح به ماجد فرج، ويكون ما يريد فعله ما تمارسه الأجهزة الأمنية من تنسيق أمني؟
بالتأكيد، إن الواقع هو المعقول رقم1، ولو خرج على كل منطق ومعقولية، فنحن أمام واقع صادم لكل عقل ولكل منطق، ويخرج عن كل ما عرفته الوطنية الفلسطينية، ودعك مما عرفته من مقاومة وممانعة وكفاح مسلح، وما قدّمته من شهداء وتضحيات، فنحن هنا لسنا أمام خروج فاضح عن ميثاق م.ت.ف كما حدث أيام اتفاق أوسلو، وإنما أمام خروج عن آخر نقطة تنازل يمكن أن يقدّمها خط المفاوضات والتنازلات، أي التنسيق الأمني كخدمة خالصة للاحتلال والاستيطان؛ حرصا على بقاء السلطة والراتب.
لقد حلّت السلطة، ومَقام السيد الرئيس، وما يتبع من ألقاب، مثل رئيس جهاز المخابرات العامة، وما يتفرّع من فساد، مكان ما كانوا يسمّونه وهما "الحلم الفلسطيني": أي الدولة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، وقد اعتبروه "المشروع الوطني الفلسطيني"، وهذا كله بدوره أصبح ثمنه التنسيق الأمني مع الاحتلال الصهيوني: حماية الاحتلال وموضوعيا حماية المستوطنات من جهة، وقمع المقاومة وإجهاض الانتفاضة والدَوْس على كل أمانيّ الشعب الفلسطيني وتطلعاته وتضحياته من جهة أخرى، وهو أمر فاقَ كل ما عرفه احتلال من "تعاون" من قِبَل فئة خارجة على الشعب الرازح تحت الاحتلال.
من هنا، أَحْسَنَت الجبهة الشعبية وحركة حماس وحركة الجهاد في إصدار بيان مشترك استهجنَ واستنكرَ بأشدّ عبارات الاستهجان والاستنكار تصريحات ماجد فرج رئيس جهاز المخابرات الفلسطينية لمجلة "ديفنس" الأمريكية، علما أن هذه التصريحات جاءت لتكشف الممارسة الفعلية التي تمارسها الأجهزة الأمنية، ومن ثم لا مجال للتنصل منها حتى لو أنكرها أو اتهمها بتحريف أقواله. وبالمناسبة، لدى فصائل المقاومة وشباب الانتفاضة عشرات ومئات الأدّلة على ما مارسته وتُمارسه الأجهزة الأمنية من سياسات وأفعال تزيد أضعافا عما صرّح به ماجد فرج.
على أن البُعد الهام والجديد الذي يجب أن يلقى كل دعم هو اتفاق فصائل المقاومة الثلاثة والجهاد وحماس والشعبية على إصدار البيان المشترك؛ فقد اُصبح من الضروري أن تتشكّل نواة جبهة جديدة من الفصائل الفلسطينية والحركات الشبابية والنخب وكل قوى الشعب الفلسطيني من أجل المضيّ بالانتفاضة لتصبح انتفاضة شاملة، فتدخل معركة فاصلة مع الاحتلال من أجل تحقيق الأهداف الراهنة التي يتفق عليها الجميع وهي: دحر الاحتلال عن القدس والضفة الغربية، وتفكيك المستوطنات، وإطلاق كل الأسرى، وفك الحصار عن قطاع غزة، وهي أهداف لا أحد يختلف عليها، وهي قويّة على المستويين العربي- الإسلامي والعالمي. بل حتى نتنياهو لا يستطيع أن يُقنع حلفاءه ببقاء الاحتلال والاستيطان.
ولهذا، فإن كل ما هو مطلوب إلى جانب ما تمّ إنجازه في هذه الانتفاضة هو إنزال الجماهير إلى الشوارع وإعلان العصيان المدني– السلمي ضدّ الاحتلال والاستيطان، وبإصرار، لأشهر إذا لزم الأمر، وبلا قبول لتفاوُض، أو تمييع؛ فالعدو يعرف ماذا فعل في فك الارتباط مع قطاع غزة وتفكيك المستوطنات، فعليه أن يفعل الشيء نفسه مع الضفة والقدس وفك الحصار عن قطاع غزة وإطلاق الأسرى (كما أطلق الآلاف في التبادل). وببساطة يجب أن نجعل تكلفة انسحابه أقل من استمراره في الاحتلال والاستيطان.
إن هذا البيان الهام يجب أن يقرع الجرس لمحمود عباس ودعوته إلى وقف التنسيق الأمني والانضمام إلى الانتفاضة، وهو ما يجب أن تأخذ به قيادة فتح وكل قيادات فصائل م.ت.ف قرارا إيجابيا، وبهذا تُوحَّد الساحة الفلسطينية وتعود م.ت.ف الجبهة العريضة للجميع، ولكن أن تكون م.ت.ف المقاوِمة والمنتفِضة لا م.ت.ف التنسيق الأمني مع قوات الاحتلال.
فَتَحيّة للفصائل الثلاثة حماس والجهاد والجبهة الشعبية على هذا البيان، وإلى الأمام في هذا المسار المنقِذ للسلطة ولمنظمة التحرير، والذاهب إن شاء الله إلى الانتفاضة الشاملة والنصر.