إغلاق الحساب البنكي لهذه المجموعة هو جزء من توجه مقلق لدى المؤسسة الحاكمة نحو القمع المالي للمنظمات التي لا تنسجم معها.
خلال السنوات القليلة الماضية أصبح من الصعب على المنظمات الإسلامية أن تمارس نشاطاتها بحرية داخل بريطانيا. فلقد باتت المساجد والجمعيات الخيرية والمراكز البحثية وغير ذلك من المجموعات المسلمة عرضة للتضييق المتزايد من قبل الجهات الرسمية.
وقد اتسعت دائرة هذا التضييق حتى بدأت تطال المجموعات التي تدعم التوجه اليساري أو تدعم القضايا التي لا تنسجم مع مؤسسات الحكم في منطقة الشرق الأوسط. وآخر مثال على ذلك يتعلق بحملة التضامن مع الشعب الفلسطيني والتي تنشط في مجال دعم الحقوق الفلسطينية منذ ما يزيد عن ثلاثين عاما.
وأشهد انطلاقا من تجربتي الشخصية بأن حملة التضامن مع الشعب الفلسطيني تتكون من نشطاء ينتمون إلى الطبقة الوسطى نواياهم حسنة ويتعاطفون مع المستضعفين. هذه الجماعة ليست متطرفة على الرغم من أن بعض العناصر في اللوبي المؤيد لإسرائيل تحاول لصق صفة التطرف بها. وكما هو حال كثير من المجموعات المثالية التي تقع إلى اليسار من الوسط، اختارت حملة التضامن مع الشعب الفلسطيني التعامل مع البنك التعاوني والذي يشتهر عنه ارتباطه بالحركة العمالية البريطانية.
في الرابع عشر من يوليو من هذا العام تلقت حملة التضامن مع الشعب الفلسطيني خطابا من البنك التعاوني يخبرهم فيها بأن حسابهم في البنك سوف يغلق، ولم يقدم البنك أي شرح للأسباب التي دعته إلى ذلك ولم يتح للجماعة حق الاستئناف ضد قراره. كل ما قاله هو أن "اعتبارات المجازفة" لدى البنك طرأ عليها تغيير.
وحينما سأل أصحاب الحملة البنك عن السبب في قراره إغلاق حسابهم قوبل سؤالهم بالتجاهل التام. ولكن، يبدو أن البنك التعاوني كان أكثر استعدادا للحديث عن الأسباب عندما أطلع وسائل الإعلام فيما بعد على التفاصيل. فقد ورد في صحيفة "ذي جيروساليم كرونيكل" أن البنك "كشف النقاب عن أنه أغلق حساب حملة التضامن مع الشعب الفلسطيني بسبب مخاوف من أن المال قد يتم سهوا تحويله إلى مجموعات غير مشروعة داخل قطاع غزة".
ومضت الصحيفة تقول إنه "بعد فحوصات متقدمة أجريت بعناية على حساب المجموعة قال البنك إنه لم يقتنع بأنه لن يستخدم لتمويل نشاطات محظورة داخل المناطق الفلسطينية".
وأوضحت صحيفة التلغراف بأن بالحساب البنكي التابع للحملة قد أغلق "بسبب مخاوف من أنه قد يستخدم سهوا في تمويل الإرهاب". وتقول حملة التضامن مع الشعب الفلسطيني إن البنك التعاوني لم يعبر إطلاقا عن أي مخاوف من هذا النوع في مراسلاته معها.
وحينما تواصلت شخصيا مع البنك لأسأله عن ذلك أصر المسؤولون فيه على أن الصحافة وحدها تتحمل المسؤولية عما نشرته، وأصروا على القول "إننا لا نستطيع الخوض في التفاصيل الخاصة بأي منظمة بعينها ولم نقم بذلك أبدا".
وأضاف متحدث باسم البنك "نحن لا نملك التحكم في تأويل الصحفيين" لما يصدر عن البنك من تصريحات.
وأما حملة التضامن مع الشعب الفلسطيني فقد نفت نفيا قاطعا أنها تمول الإرهاب، وأخبرتني تريشا ريتش، إحدى المديرات في الحملة، بأن جميع التعاملات المصرفية لحملة التضامن مع الشعب الفلسطيني تقريبا تتم داخل المملكة المتحدة، وأنها لا تستخدم أبدا لتمويل أي نشاطات تجري داخل المناطق الفلسطينية، وأضافت أن أي تحويلات بنكية يمكن أن تكون جرت إنما كانت للإنفاق على "سفر وإقامة البعثات التي نصطحبها إلى فلسطين أو لجلب الضيوف المتحدثين إلى المملكة المتحدة، أو ثمنا للكوفيات والنطاقات".
وقالت الآنسة ريتش إن البنك التعاوني كان بإمكانه بكل بساطة التحقق من هذه التحويلات، وأنه لو كانت توجد لدى البنك التعاوني أي شكوك تبعث على القلق "فإن الخطوة الحكيمة كانت تتمثل في تنبيهنا بخصوص المشكلة. إلا أنهم بدل أن يفعلوا ذلك قاموا بإغلاق حسابنا بشكل أحادي، كما أغلقوا حسابات خمس وعشرين جمعية خيرية ومنظمة سياسية لتعاطفها مع فلسطين".
عندما واجهت البنك التعاوني بهذا التصريح لم أحصل على إجابة سوى القول بأنهم لا يستطيعون التعليق على شؤون عملاء بأعينهم.
وهكذا باتت حملة التضامن مع الشعب الفلسطيني وقد أظلتها سحابة من الشك، وقد تجد من الصعوبة بمكان الحصول على خدمات مصرفية جديدة في المستقبل، وسيصعب ذلك عليها القيام بنشاطاتها المعتادة رغم أنها نشاطات مشروعة وقانونية تماما مثل دفع رواتب العاملين لديها أو تسديد ما عليها من فواتير. كما لحقت بسمعتها أضرار بالغة ومستديمة، وكل ذلك يبدو في الظاهر كما لو كان ناجما عن الاستهتار البالغ الذي اتسمت به تصريحات البنك التعاوني لوسائل الإعلام.
ما حدث هو جزء من نمط دارج. ففي وقت مبكر من هذا العام قدمت برنامجا وثائقيا عرض في المحطة الرابعة لإذاعة البي بي سي حول قيام بنك إتش إس بي سي قبل ذلك بإغلاق حسابات معينة لديه تعود لمسلمين، ولم يكن لدى أي من ضحايا الإغلاق القدرة على التقدم باستئناف أو المطالبة بتعويض.
اكتشفت أن بعض هذه الإغلاقات كانت لأسباب سياسية وأن قرار بنك إتش إس بي سي إغلاق حساب مؤسسة قرطبة على سبيل المثال كان له علاقة بالمراجعة التي كانت تجريها الحكومة البريطانية بشأن جماعة الإخوان المسلمين.
وخلال عطلة نهاية الأسبوع وردت أنباء أكثر إزعاجا، إذ كشفت صحيفة الصنداي تايمز أن بنك إتش إس بي سي قام بإغلاق حساب منظمة الإغاثة الإسلامية، وهي الجمعية الخيرية المعروفة التي تقدم المساعدات الإنسانية للمحتاجين في أربعين دولة داخل الشرق الأوسط وحول العالم.
وتارة أخرى لا يوجد أدنى دليل بأن الإغاثة الإسلامية مولت الإرهاب في أي مكان، وكما هو حال البنك التعاوني مع حملة التضامن مع الشعب الفلسطيني، لم يقدم بنك إتش إس بي سي أي دليل، من أي نوع، يثبت فيه بأن عميله، منظمة الإغاثة الإسلامية، قد ارتكب أي مخالفة أو جنحة.
إلا أن الدليل القوي قائم على أن قرار بنك إتش إس بي سي أدى إلى أن يصبح عمل منظمة الإغاثة الإسلامية في مختلف أنحاء العالم أصعب بكثير من ذي قبل (ولقد أشارت الجمعية الخيرية كمثال على ذلك إلى أن دفعة مالية لمساعدة ضحايا الزلزال في النيبال قد جرى توقيفها)، بينما لم تصل تبرعات كثيرة إلى الجمعية الخيرية، والتي تقول الإغاثة الإسلامية إنها لا تعرف يقينا حجمها لأنها لا تجد سبيلا إلى معرفة ذلك.
في نهاية المطاف نتعرف من خلال قرار بنك إتش إس بي سي على كثير من الأمور التي تتعلق ببنك إتش إس بي سي ولكن لا يفيدنا ذلك في معرفة شيء يذكر عن منظمة الإغاثة الإسلامية. في عام 2012 غرمت السلطات في الولايات المتحدة الأمريكية هذا البنك الدولي مبلغا قدره 1.2 مليار جنيه إسترليني لتورطه في غسل الأموال. ومنذ ذلك الوقت أصبح البنك شديد الحرص على عدم إغضاب السلطات الأمريكية بأي شكل من الإشكال، ويبدو أن القرار بإغلاق حساب منظمة الإغاثة الإسلامية وغيرها من الجمعيات الخيرية الإسلامية هو من تداعيات تلك الأزمة.
هذا وضع بائس. إن من حق المواطنين البريطانيين أن تكون لهم حسابات بنكية. وها قد تحول الحصول على الخدمات البنكية إلى أداة سياسية.
نظرا لأن البنك التعاوني رفض إبداء الأسباب التي دفعته إلى التصرف بهذا الشكل فإن من حقنا أن نخمن بشأن دوافعه لإغلاق حساب حملة التضامن مع الشعب الفلسطيني.
جيريمي كوربين هو أحد رعاة حملة التضامن مع الشعب الفلسطيني وواحد من الخطباء الدائمين في مهرجاناتها. هل هي مجرد صدفة أن يقع إغلاق هذه الحسابات البنكية بعد شهور قليلة من انتخاب جيريمي كوربين زعيما لحزب العمال؟
تتمتع حملة التضامن مع الشعب الفلسطيني بعلاقات ممتدة في عرض البلاد وطولها، وككل الجماعات المشابهة لها، تعتبر الحملة جزءا مهما من المجتمع المدني البريطاني. ما من شك في أن كثيرا من البريطانيين لا يعبأون كثيرا بالحقوق الفلسطينية، وبعضهم، وربما أغلبيتهم، قد يعارضون الأهداف التي تنشط من أجلها حملة التضامن مع الشعب الفلسطيني.
ولكن، ليست هذه هي القضية. لقد غدا جزءا أساسيا من تقاليدنا الديمقراطية أن نضمن للمنظمات التي تنشط في مجال الحملات بمختلف أنواعها العمل بحرية وبشكل علني ما داموا ملتزمين بالقانون. لا يجوز لنا أن نعيق عمل هذه المنظمات بشكل انتقائي أو من خلال قرارات سرية يتخذها أشخاص لا يخضعون للمحاسبة لمجرد أنها لا تتمتع بشعبية واسعة أو لأنها غير منسجمة مع رغبات المؤسسة الحاكمة.
ورغم كل ذلك أجدني متعاطفا مع البنك التعاوني. فمن المحتمل جدا أن يكون البنك التعاوني قد تعرض لضغوط من الخارج، في الأغلب من قبل الولايات المتحدة الأمريكية (كما حصل مع بنك إتش إس بي سي من قبل)، حيث تمارس وزارة الخزينة الأمريكية صلاحيات لا ترحم بفضل هيمنة الدولار كعملة عالمية، وبسبب ما تفرضه الولايات المتحدة من قيود على التعاملات المصرفية وعلى التحويلات المالية على مستوى العالم خدمة لمصالحها السياسية وخاصة في مجال العلاقات الخارجية.
وقد لا يتعدى الأمر مجرد إجراء مالي احترازي من قبل البنك التعاوني تمخض عنه إغلاق بعض الحسابات ذات الحساسية السياسية مثل حساب حملة التضامن مع الشعب الفلسطيني.
إذا كان هذا هو الحال، فهناك ما يدعو لمزيد من الفزع. فالبنك التعاوني بنك بريطاني ونحن في هذه البلاد لا يسعنا السماح للحكومات الأجنبية بأن تحدد من يُسمح له ومن لا يسمح له بالعمل بحرية داخل بريطانيا. إن إغلاق حساب حملة التضامن مع الشعب الفلسطيني مسألة مقلقةِْ جدا وتثير الكثير من الشكوك حول مستقبل الديمقراطية في بريطانيا.
عن ميدل إيست آي