ألف مبروك للشعب التركي على انتصاره وانحيازه لمصالحه وجيرانه ، ألف مبروك لحزب العدالة والتنمية ولأردوغان وأغلوا، لكن هناك سؤال هام يطرح نفسه لماذا نجح أردوغان هذه المرة بهذا الفوز التاريخي بعد نتائج الانتخابات السابقة؟ فكثير من الناس يعتقد أن الأسباب الاقتصادية وراء هذا الفوز، والاقتصاديون مولعون بنظرية الرشد الاقتصادي، أي أن هذه الانتخابات تعكس رشدا في قرارات المصوتين للاختيار، وهذا ما لمسته بنفسي في الصيف الماضي، حيث كنت في زيارة إلى تركيا، وبعد أن خرجت من المطار فإذا بشوارع جميلة ونظيفة، تجد اهتماما بالغا بالزهور في كل مكان وتكتب كلمات الترحيب بالزهور في الشوارع العامة، ناهيك عن شبكة الطرق المتكاملة من “المتروبوس” وهو خط أتوبيس يجوب إسطنبول من أقصاها إلى أقصاها وتجد ترابطا بين محطات الترام والأتوبيس ومترو الأنفاق، وأكثر من ذلك تجد ارتباطا بأسطول النقل البحري للتنقل بين المدن التركية وبعضها البعض كل ذلك بتذكرة واحدة، مثل مدينة بورصة التركية التي تذهب إليها ببواخر أجمل من الطائرات، فيها أماكن خاصة بالصلاة وخدمة طيبة رغم صعوبة اللغة التركية في التواصل مع الناس، وذات مرة ركبت تاكسي كان لحسن حظي أن السائق يجيد اللغة العربية، فقلت له هل هناك فارق بين حكم العدالة والتنمية وبين نظم الحكم قبل ذلك، فأجابني باهتمام بالغ بان الأمر قد يصعب عليك تخيله فكانت مجالس المدن تقطع المياه بالأسبوع عن المنازل، وكان غير مسموحا أن أقوم بغسل سيارتي بالماء، ناهيك عن كمية الأزبال في كل بقعة من بقاع تركيا، فكان أغلب الناس ترتدي الكمامات في الشوارع من الروائح الكريهة التي تزكم الأنوف، وكان من الصعب أن تجد فرص عمل وكنت تحتاج إلى شوال حتى تحمل العملة التركية ـ (أي الليرة التركية نتيجة انهيارها أمام الدولار) - فقد كان الاقتصاد منهارا، أما اليوم كما ترى يأتي إلينا سياح من أوروبا وأمريكا والخليج العربي قرابة 30 مليون سائح سنويا يتمتعون بشوارع نظيفة وطرق ممهدة وحضارة رفع عنها التراب.
كانت تلك بعض من انجازات حزب العدالة والتنمية التي رأها رجل الشارع العادي، حتى وضع البلاد في مصاف أفضل دول أوروبا بلا استثناء، وكل ذلك خلال أقل من خمسة عشر عاما فقط تولى فيها حكم البلاد، أما من الناحية الاقتصادية فقد نقل الحزب تركيا نقلة نوعية، فوفق معايير صندوق النقد الدولي؛ فإن تركيا أصبحت دولة متقدمة، فقد استطاعت تركيا سد ديونها الخارجية ورفع متوسط دخل الفرد إلى 15 ألف دولار سنويا وخفض معدل التضخم ليصل إلى 8.9% وهذا يعكس تحسن ملحوظ في مستوى معيشة المواطنين.
وإذا قارنت هذه الأوضاع في مصر تجد أن معدل التضخم لا يقل بحال من الأحوال عن 25% ناهيك عن تزايد أعداد الفقراء في مصر لتبلغ قرابة 40% من السكان لا يتجاوز دخل الفرد 3000 دولار سنويا على أحسن الأحوال في المتوسط، فضلا عن أن مصر أصبحت الأولى عالميا في حوادث الطرق وأكبر مستورد للقمح على مستوى العالم وأكبر عدد مرضى للكبد في العالم، ولا يخفى على أحد حال انتشار الفساد وأكوام الزبالة في كل بقعة في مصر، وهروب الاستثمارات وانهيار أعداد السياح بعد جرائم القتل لهم من قبل الجيش رغم أن مصر بها ثلث آثار العالم، وكذلك تدهور الجنية المصري.
أيا ما كان الأمر فإن الأتراك أقبلوا بكثافة لعلمهم بما يحيط بهم من أثار بالغة الخطورة على حدودها الطويلة مع سوريا ودخول الدب الروسي وهو عدو شرس للأتراك من قبل وكذلك الدولة الإيرانية التي لها عداءات تاريخية مع تركيا، كما يهدد تركيا تنظيم الدولة الذي فيما يبدو أنه مدفوع من الخارج لتحطيم أي نموذج إسلامي ناجح، كما تتعرض تركيا لحرب حقيقية من جانب حزب العمال الكردستاني، وشهدت تركيا أكثر من تفجير كبير في الآونة الأخيرة لصد الناس عن الانتخابات.
كل ذلك لم يجعل قادة الجيش تنقلب على إرادة الناس كما انقلب الجيش في مصر على إرادة الشعب، ولربما هم مازلوا يفكرون في انقلاب مدفوعين من الغرب، لكن الدعم الشعبي يقف مانعا أمام ذلك ولم يحد أردوغان هو الآخر عن الديمقراطية وعن الاحتكام إلى الشعب التركي وعن الحفاظ على مدنية الدولة، وكان يمكنه أن يتحجج بحجج كثيرة مثل خطر الإرهاب، أو تدهور في قيمة الليرة التركية إلا أنه انحاز إلى حرية شعبه وبناء أصول عريقة للديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط.
وإن كان هناك فئة قليلة من المحسوبين على الإسلاميين يكفرون أردوغان وحزبه لأنه لم يطبق الشريعة، مع أن أي زائر لتركيا يمكن بنظرة فاحصة أن يعلم أن الشعب التركي يحتاج إلى وقت طويل حتى يستعيد عافيته من العلمنة التي تعرض لها لقرن من الزمان تقريبا، فالشعب التركي قد بدا لي أنه شعب أوروبي في عادته فلا تجد مظاهر التدين هناك في تركيا كما تراها في شوارع القاهرة مثلا، لكن عندنا تدين مغشوش، يهتم بالظواهر ولا يعبأ بجوهر الدين، وتعجب أصلا لماذا اختار الأتراك أردوغان ذي التوجه الإسلامي، إن إقدام الناخبين الأتراك على الانتخابات بهذه الكثافة يعكس قلقا وخوفا لديه من تردي الأوضاع الاقتصادية والسياسية والعسكرية، ومع هذا النجاح المبهر فإنه من المتوقع أن تشتد الحروب على تركيا سواء ظاهرة آم خفية سواء بمزيد من محاولات الخيانة والانقلاب أو الاغتيال والفوضى حتى تزل أقدامه، فيظن كثير من الخائنين أن فوز أردوغان خطر على الأمن القومي العربي والمصري.. لا يشعرون بأي عار أو خجل من دعمهم لبشار أو السيسي أو أنهم يقفون مع أعداء الأمة من الإيرانيين أو الروس، ورأينا ذلك فقد ضاعت مليارات من الدولارات دفعت للمعارضة التركية للقضاء على أردوغان حتى لا تمتد العدوى لمصر أو للخليج العربي، لقد أثبت الشعب التركي أنه شعب مدرك لما يحاك له، ولا عزاء لشعب لعب به إعلاميين كذبة فشعب غير قادر على أن يعرف عدوه من صديقه، أهل لأن يكون في مؤخرة العالم، وأقول مكررا مبروك للشعب التركي ولا عزاء للمصريين.