فتيات ونساء في ريعان الشباب والأنوثة والأمومة.. فتيان ورجال في أوج نشاطهم وقوتهم ورجولتهم.. تراهم جميعا وقد تركوا زينة الحياة الدنيا وشهواتها فلبوا نداء الخالق سبحانه تعالى، عندما نبأهم بخير من ذلكم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة.
مواكب وجنازات مهيبة، بل أعراس لم نعهد مثيلها في حياتنا التي نعيش، وقد رأينا ذلك لمهند الحلبي وإخوانه وأخواته الذين نحسبهم عند الله سبحانه مع الشهداء والصديقين والأبرار.
مشاعرنا ووجداننا اهتزت، وعيوننا ذرفت الدموع، ومنا من بكى وأبكى من حوله وهو يرى ابنته وأخته في طهرها وعفافها، وهي تذود عن نفسها وتصرخ في وجه أعتى وأحدث نموذج لمصاصي الدماء، الذين غذتهم الصهيونية عقيدة كره الإنسانية وسلب كرامتها وحرماتها وكل ما هو إنساني.
إسراء عابد، الاسم في قمة تمثله في رحلة الإسراء والمعراج ولكن بالعبودية الحق لله الواحد الأحد.. إسراء الطهر والعفاف والعزة والكرامة من أرض الرباط والإسراء والمعراج، امرأة متزوجة ولها ثلاثة من الأبناء من مدينة الناصرة الفلسطينية، وقفت شامخة في موقف الحافلات في قرية الفولة الفلسطينية (أو ما يسمى مدينة العفولة كما عند المحتلين الصهاينة) وهي تصرخ وتقول "يابا" باللهجة الفلسطينية، لتحرق قلب كل أب عنده إنسانية، ليعيش لحظات يرى ابنته تهدر كرامتها وإنسانيتها وهم يحاولون قتلها أمام سمع وبصر البشر قاطبة غير آبهين بكل العالم، لأن العالم منهم المتصهين، ومنهم الذي يلهث وراء مصالحه وشهواته الدنيوية الحقيرة، ومنهم من هو في جبنه، حتى الكلمة يخاف أن تخرج من فمه الذي اصطكت أسنانه ارتعادا، واختلت حباله الصوتية فأصبح وكأنه لا يعلم بعد علم شيئا.
اليوم وبالأمس القريب والبعيد، نتذكر شخصية تشترك في وحشيتها مع صهيونية اليوم، شخصية لا يمكن للإنسانية نسيانها، ألا وهي شخصية الكونت الأمير الروماني فلاد تيبيسو الملقب "دراكولا" والتي تعني ابن الشيطان. تلك الشخصية التي كتبت فيها روايات واستمدت منها أفلام رعب تخصصت في تصوير مصاصي الدماء. كان العصر الذهبي لدراكولا بين 1456-1462م، وقد قتل ما بين 100 و 300 ألف شخص، وذلك عندما استلم مقاليد الحكم، ويعد دراكولا بطلا وطنيا في رومانيا لوقوفه أمام التمدد العثماني في أوروبا بمساعد المجر - هنغاريا - التي أنزلت منذ أسابيع قليلة أشد الإهانة بأهلنا من سورية الحبيبة ممن كانوا في طريق لجوئهم، هربا من طغاة القتل والدمار وأعوانهم. فبعد انتصاره على جيوش العثمانيين مدعوما بالمجر، استطاع استرجاع عرشه وتثبيته.
دراكولا هذا، كان يقتل الناس بطريقة الخوازيق ويصفهم في الطريق إلى قلعته، ومنه ربما تعلم الجبابرة المعذبون لشعوبهم تلك التقنيات …
ولكن دراكولا وقع فريسة لخيانة أخيه، فانتزع الحكم منه بمساعدة العثمانين، فسجن ثم طرد دراكولا إلى المجر 12 سنة، وفي فترة سجنه ذكر أنه كان يجمع الطيور والفئران ويقوم بقتلها وتعذيبها. وبوفاة أخيه أحكم العثمانيون قبضتهم على أرضه، ولكن دراكولا سارع وبمساعدة المجر لاستعادة حكمه في عام 1475، فما لبث السلطان التركي وفي العام التالي أن غزاها من جديد وقتل دراكولا وعلق رأسه في مدينة اسطنبول ودفن جسمه في مدينة سناجوف بالقرب من العاصمة بوخارست. وقد قيل إن الذي قتله واحد من أتباعه وقيل أن من قتله هو السلطان العثماني محمد الفاتح.
ولكن هل يعتبر طغاة اليوم وأعوانهم بمصير دراكولا ؟
ألا يعد دراكولا شخصية هلامية أمام من قتلوا الشيوخ والنساء والحوامل والأطفال والشباب والشجر والدواب، وشردوا من الشعب الفلسطيني على يد الصهيونية المارقة؟ وذلك منذ التمهيد لانتزاع فلسطين بوعد بلفور السقيم، و الذي أعطى وهو لا يملك حق العطاء للصهيونية أرض فلسطين، وتبعتها القوى العظمى والمتصهينة والمنتفعون المتاجرون بقضية فلسطين لأهوائهم ومصالحهم.
ألا يعد دراكولا شخصية مارقة أمام من قتل وهجر وعذب مئات الآلاف من أهلنا في بلاد الرافدين؟ ألا يعد دراكولا متواضعا أمام توني بلير وجورج بوش الابن في إهلاكهم الحرث والنسل في العراق وتفكيك بلد بل أمة؟
لاشك أن شخصية دراكولا سوف تكون حزينة جدا وفي عيش ضنك، لو قدر الله سبحانه وتعالى لها أن تبعث من جديد، فترى أن دراكولات العصر الحديث قد جعلته صفرا على الشمال، بكل ما أوتيت من أسلحة دمار حديثة أفشلت مفهوم الهندسة الحديثة، لأنها عطلت أهم مبادئها وهي خدمة الإنسانية بحيث لا يكون ما تنتجه ضارا بكرامة الإنسان وحقه في العيش حرا كريما ؟
بالطبع ما فعله الجنود الصهاينة في محاولة قتل إسراء عابد، يتواضع عنده دراكولا الأب، وذلك في وحشيته وقتله مئات الآلاف من البشر.
اليوم نرى دراكولا العملاق متمثلا في الصهيونية وسدنتها …
ولكنهم لا يدركون أن الرب الإله المعبود الواحد الأحد، قد خلق الإنسان وجعل له أطوار حياة من تلك النطفة حتى يتدرج في مراحله علقة فمضغة فعظاما فلحما فوق العظام، ثم يخرج طفلا من رحم أمه فيشتد عوده ثم يهمد بعد ريعانه، حتى إذا وصل لأرذل العمر لا يعلم بعد علم شيئا، مصداقا لوصف القرآن الكريم في سورة الحج وغيرها لدورة حياة الإنسان على هذه المعمورة.
فيا أمة البشر التي منها الدراكولات القديمة والحديثة، هل كان في أي وقت على هذه المعمورة بشر قد عاش أبدا؟ هل توجد إمبراطورية عاشت أبدا ولم تغب عنها الشمس؟ تلك هي سنة الله في خلقه على المتكبرين: (اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43) فاطر).
وأنتم يا أيها الطغاة في أرضنا ومن يسندونكم، لقد ساندتم دراكولا فحاصرتم الشيخ والمرأة الكاهلة والمريض والطفل الوليد والرضيع وأذقتموهم ويل العذاب والتنكيل وحرمتموهم حقهم في الإنسانية وحاربتموهم في لقمة عيشهم.. ربما تظنون أن حصاركم ومياه البحر التي تغرقون بها غزة الأبية لن تكون عليكم، كما كانت على فرعون موسى، فلن ينفعكم هؤلاء ولا شهواتكم الدنيوية الرخيصة: (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92) يونس).
اليوم نقولها كلمة نشهد الله عليها أننا قد بلغناكم يا علماء وفقهاء وخطباء أمتنا …
أين أنتم يا علماءنا يا من قلتم "السلم قبل العدل"؟
أين أنتم يا من أشبعتمونا كلاما في فقه الطهارة، وتناسيتم فقه واقعنا وأولويات أمتنا؟ أين أنتم ممن عطل مقاصد الشريعة الإسلامية كلها أو بعضها؟ نقولها ونعوذ بالله أن نقلل من علم فقيه أو عالم، ومعاذ الله أن نتجرأ على الفقه بعلوم شرعنا، فمن يرد الله به خيرا يفقه في الدين، كما علمنا رسولنا عليه أفضل الصلاة والتسليم.
بالأمس وفي فلسطين الحبيبة، كانت ريهام الدوابشة وزوجها ورضيعها آمنين مستأمنين في بيوتهم فقتلهم الصهاينة …
بالأمس كانت هديل الهشلمون، صوت الحمام من الخليل من حول الحرم الإبراهيمي، جادت بنفسها وطهرها وعلمها وحجابها الذي هو شرف أمتها …
والكثير ممن جادوا بأنفسهم من قبل ومن بعد، في فلسطين وسوريا والعراق وغيرها في المعمورة …
واليوم ومع ابنتنا وأختنا الطاهرة العفيفة الشامخة ابنة مدينة الناصرة، فقد تعمق هدر كرامتنا يا أمة الإنسانية ويا علماء وفقهاء وخطباء أمتنا …
اليوم نقولها كما آمنا بها من قبل ومن بعد، لقد قالتها اليوم لكم إسراء العابدة لربها: لا تقولوا مجددا فلسطين 1948، بل قولوا فلسطين كل فلسطين. لا أحد يقول لنا -بعد قوله إسراء وهي تصرخ أمام دراكولات الصهاينة- إلا أن فلسطين هي القدس كلها لا شرقية ولا غربية، مثلما تبجح الطاغية المارق عن أمته في الأمم المتحدة ليقول "القدس الشرقيه"، وكأنه لا يمت للعروبة والإسلام بشيء. نقول كما قالت إسراء العابدة في صرختها: إن القدس كلها أخت الناصرة والعفولة وحيفا ويافا وعكا وأم الفحم ومعها الخليل وجنين ونابلس وطولكرم وكل شبر من فلسطين، كما أوقفها عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه.
ونقول لإسراء العابدة والله إننا انتحبنا من أجلك، ونستحي من رجولتنا أمامك، فقد جعلت رجولتنا على المحك.. أنت رمز العزة والطهر والكرامة والإنسانية في أرض الرباط والإسراء والمعراج.. ندعو لك أن يشفيك الله عز وجل، فتقومي على قدميك، وتقودي جيل أمهات فلسطين.
ونقول، وليس ختاما، للطغاة والظلمة والباغين والمغتصبين ومن في جوقتهم من المساندين والساكتين عن الحق وعن إهدار كرامتنا، نقول لهم: إننا اليوم ندعو عليكم جميعا دعاء موسى عليه السلام نبي الله لبني إسرائيل: (قَالُوا أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) الأعراف).