قضايا وآراء

لبنان.. من انقلاب 52 إلى الانقلاب على الطائف

1300x600
كان حال لبنان عند استقلاله في العام 1943، كحال مصر سورية والعراق ومعظم دولنا العربية لحظة نيل  استقلالها ما بعد الحرب العالمية الثانية، دول مدنية ديموقراطية مع نظم سياسية واقتصادية حرة وتعددية حزبية فكرية وثقافية وعمل نقابي واعد؛ حريات صحفية وإعلامية لافتة ومجتمع مدني منفتح حي وحيوي.

في لبنان تحديدا كان ثمة دستور مدني ديموقراطي يكفل الحريات على أنواعها مع ثغرات أو نواقص تحتاج إلى العمل عليها لإصلاحها وتطويرها، ولكن بشكل توافقي سلمي ديموقراطي، علما بأن بيروت كما حواضرنا الكبرى الثلاث القاهرة دمشق وبغداد كانت تغص بالحيوية والسجالات والنقاشات والفعاليات حول كيفية سد تلك الثغرات والنهوض بالدول والأوطان حديثة العهد بالاستقلال.

جاء انقلاب 1952 في القاهرة  ليحطم السيرورة السابقة، ويغير المشهد ليس في مصر بل في الإقليم برمته، وليؤسس لسابقة حكم العسكر وأنظمة الاستبداد التي كرّست نظام الحزب الواحد والزعيم الأوحد الأنظمة التي أمّمت مختلف السلطات بل المجتمع كله لصالحها،وأنتجت فكرة أو مفهوم التغيير العنفي القائم على القوة بدلاً من التغيير السلمي الديموقراطي والهادئ.

تأثر لبنان طبعا بالأجواء العنفية الاستبدادية والمتشنجة التيأشاعها انقلاب 52 وانحازت فئة من أبنائه إلى منطق الانقلاب، وكان من الطبيعي أن تتدخل الأنظمة الاستبدادية لنشر ثقافتها أو بالأحرى منهجها السياسي القائم على الأحادية العنف والتكفير السياسي –التخوين لخصومها- إلا أن الوطن الصغير بدا وكأنه عصيّ على محاولات الهيمنة والتدجين، ورغم بعض الأحداث هنا أو هناك، ظل المسار الديموقراطي هو السائد حتى زمن الجنرال فؤاد شهاب ومكتبه الثاني، والذي بدا وكأنه تساوق ما أو تحديث لبناني لأنظمة الاستبداد البوليسية المحيطة، ومع ذلك فإن ذهنية الدولة المدنية الديموقراطية ظلت هي الأساس واصطفت النخبة السياسية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، من أجل الحفاظ على هوية البلد وروحه الديموقراطية المنفتحة على محيطه العربيوالدولي.

مع سقوط الانقلاب المصري واستنساخاته العربية في يونيو/ حزيران 67 وإنزالهم نكبة ثانية بفلسطين بعد عقدين تقريباً على اغتصابهم للسلطة بحجة إزالة أثار النكبة الأولى دفع لبنان الثمن مرتين مرة عبر التمسك بالمنطق الاستبدادي الذي منع ناصر من التمسك باستقالته-ربما كانت ستغير مجرى التاريخ- أو اعتقاد حافظ الأسد أنه كفؤ ومناسب لرئاسة الجمهورية في سوريا بعد فشله المدوّي كوزير للدفاع أثناء النكبة الثانية. ومرة ثانية عبر اتفاقية القاهرة التي شرعنت الوجود الفلسطيني العسكري في لبنان وكان مغزاها الأبرز الإقرار بفشل أنظمة الانقلابات في تحرير فلسطين، كما وعدوا أو برروا استبدادهم وقهرهم لشعوبهم.

اتفاقية القاهرة معطوفة على شيوع ذهنية التغيير العنيف الذي اكتسى طابعاً ماركسيا بدلاً من القومي، وقاطعا مع فكرة التغيير السلمي الديموقراطي الهادىء، أدت فى النهاية إلى اندلاع الحرب الأهلية التي استمرت لعقد ونصف تقريباً، ودمرت البلد بل وإعادته عقودا إلى الوراء وفاقمت محنة اللبنانيين والفلسطينيين على حد سواء، واستنزفت قواهم وقدراتهم في دهاليز وزواريب الاستبداد وألاعيبه بعيدا عن فلسطين والقدس وطريقها المعروف الذي لا يمر بجونيه ولا طبعاً بالقصير أو الزبداني.

مع تغير الأجواء العربية والدولية إثر سقوط الاتحاد السوفيتي والاستنتاجات الواقعية، وحتى الانتهازية التي توصل إليها الذكي -والمجرم فيآن- حافظ الأسد- وهي للمفارقة عكس تلك التى توصل إليها صدام حسين الذي لم يقرأ اللحظة جيدا، منزلا علينا مصيبة أخرى من مصائب الاستبداد- والجهد الكبير الذي بذله المبعوث الأممي الأخضر الإبراهيمي بدعم قوى من السعودية التى كانت وما زالت ربما الساحة العربية الوحيدة التي يمكن أن يلتقي على أرضها مختلف الأفرقاء العرب تم التوصل إلى اتفاق الطائف 1990، الذي كان بمثابة الإصلاح الدستوري والسياسي المطلوب والضروري لإنقاذ البلد والذي كان بالإمكان حتماً التوصّل إليه في أجواء محلية وعربية هادئة سلمية وبعيدة عن أجواء الاستقطاب والتكفير السياسي للخصوم التي أشاعها الانقلاب المصري في العالم العربي.

غير أن النظام السوري سارع إلى الانقلاب على الطائف في اليوم الثاني لتوقيعه عبر اغتيال الرئيس المتتخب رينيه معوض لترهيب النخبة السياسية والاتيان برئيس مطواع يتصرف على أساس أن شرعيته مستمدة فقط من دعم النظام السوري له.

حافظ الأسد الاستراتيجي والذكي واصل اللعب وفق القواعد العريضة للاتفاق، ومراعاة موازين القوى العربية والدولية والمصالح المشتركة آنذاك في لبنان؛ ديموقراطي هادئ ومستقر، دون كسر توازناته السياسية والطائفية أو أخذه إلى الفوضى. لذلك لم يكن الانقلاب على الطائف كاملا ومع الإصرار على عدم التنفيذ الأمين والدقيق له لعدم قيام دولة المؤسسات الديموقراطية الشفافة والنزيهة بالمعنى الحقيقي للمصطلح، وببساطة كان ثمة محاولة لاستنساخ النظام الاستبدادي البوليسي العربي الفاسد، ولكن مع المحافظة أو مراعاة الخصوصية اللبنانية، واتفاق الطائف الذي بات جزء لا يتجزأ من الدستور.

إلا أن الانقلاب الكامل على الطائف حصل بعد رحيل حافظ الأسد، وتولّي ابنه بشار للسلطة، وهو الذي لا يمتلك قدرات أو حنكة أبيه، وربما حتى لا يمتلك أي مؤهلات تسمح له بالعمل السياسي، ناهيك عن حكم بلد عريق وكبير مثل سوريا، فانساق عن إدراك أو عدم إدراك منه لفكرة الانقلاب الكامل على الطائف عبر التمديد للرئيس اميل لحود، رغماً عن النخبة السياسية بأكملها، واغتيال الرئيس رفيق الحريري، وتحويل حزب الله من مقاومة صغيرة ذات هدف محدد في الجنوب إلى جيش كامل ذي مهام محلية وإقليمية تتجاوز فكرة الصراع مع الاحتلال وتمكينه من السيطرة  بقوة السلاح على المفاصل السلطوية الأساسية في البلد، خاصة في الشق أو البعد الأمني - الأمن العام مخابرات الجيش- والعمل على إضعاف أو تحجيم المؤسسات الأخرى غير الخاضعة لسيطرته بالترهيب أو الترغيب أو حتى الإقصاء الجسدي والاغتيال المعنوي، كما حدث ويحدث مع  قوى الأمن الداخلي وشعبة المعلومات  التابعة له.

بعد انسحاب الجيش  السوري وإفشال اتفاق الدوحة 2008، وإسقاط الورقة القطرية التركية  يناير 2011 تم تسليم مقاليد  قيادة الانقلاب إلى حزب الله ، من هناك كان الطريق قصيراً ليس فقط نحو الغرق في الزبداني والقصير، وإنما إلى إحداث الفراغ الكبير في لبنان، وانهيار المؤسسات واحدة تلو الأخرى، وربط مصير ليس فقط الحزب والمقاومة، وإنما البلد كله بمصير النظام السورى الساقط حتماً، والساعي الآن لتأسيس كيان طائفي في الساحل وحمص وجبال القلمون لربطه مع كيان مماثل في  بعلبك وسهل البقاع بشكل عام.

الآن كما دائماً بات مصير لبنان مرتبط بمآلات الأمور في العالم العربي، وللأسف ربط الانقلابيون اللبنانيون أنفسهم بالنظام السوري بل وبمنظومة الاستبداد والثورات المضادة في العالم العربي الساقطة ولو بعد حين، مع عدم تجاهل وجود مقاومة مستمرة وأصيلة في هذا البلد الصغير  والجميل نفسها مع إيمان عميق أن الحسم أو المصير واحد في بيروت، كما في القاهرة دمشق وبغداد، كون اقامة الدولة العربية  المدنية الديموقراطية لكل مواطنيها خاصة فى الحواضر الكبرى، الثلاث سينعكس ايجابا على لبنان وطبعا فى اتجاه معاكس لما فعلته به منظومة الاستبداد العربية فى السنوات والعقود الماضية.