كتب محمد عارف: "الضمير المذنب لا يحتاج إلى دَيّان"، يقول المثل الإنجليزي. والمذنبون في أزمة اللاجئين العالمية هم، بحسب درجة مسؤوليتهم: واشنطن، ولندن، وتل أبيب، وباريس، وروما، وأمستردام، وكوبنهاغن.. تتبعهم ضباعُهم: بودابست، وبراغ، ووارسو، وبراتيسلافا.. وكلُ من نهش بلاد العرب والمسلمين.
صورة الشرطية التشيكية تُرقِّمُ بحبر ثابت أذرع رضيعة سورية وأمها وأخواتها المارات بالقطار في العاصمة "براغ"، أعادت للأذهان وشم النازيين لأسرى الحرب العالمية الثانية.
وسَبَق وَوَشمت "تشيكيا" ضميرها عندما صوّتت ضد قرار الأمم المتحدة حول الاعتراف بفلسطين دولة مراقب غير عضو. أيّدت القرار 138 دولة، و"تشيكيا" الدولة الأوروبية الوحيدة التي صوتت ضدّه، وأثنى عليها نتنياهو: "تشيكيا صديقة إسرائيل الوحيدة في أوروبا".
جموع اللاجئين العرب والمسلمين شطرت قلب أوروبا والعالم شطرين، فخُذْ كراهية العرب والمسلمين، أو اختَرْ التعاطف معهم.
واختارت الكراهيةَ هنغاريا، وتشيكيا، وبولندا، وسلوفاكيا التي أعلنت أن "جذور أوروبا المسيحية تتعرض لاكتساح المسلمين".
ولو عرف هؤلاء دينهم، لعلموا أن جذور المسيحية ليست في أوروبا، بل في المنطقة العربية، وفي فلسطين خصوصا. هذه الدول الشيوعية السابقة المستميتة لتصبح أوروبية، أضاعت المشيتين، التضامن الأممي مع المضطهدين، والتسامح المسيحي.
وغير صحيح ما يُقال من أن جزع دول أوروبا الشرقية من اللاجئين يعود إلى أوضاعها الاقتصادية الصعبة. فاليونان التي تقف على حافة الإفلاس، فتحت أبوابها واسعة للاجئين، وكذلك صربيا، ومقدونيا التي عبّر اللاجئون عن امتنانهم لأهلها.
والنمسا وألمانيا اللتان لم تقتلا وتشردا ملايين العرب والمسلمين، استقبلتا لاجئيهم بالورود والحلوى، "لأن الواجب الأخلاقي والقانوني يفرض على كل بلد في الاتحاد الأوروبي قبول حصته من اللاجئين"، بحسب المستشارة الألمانية ميركل.
وللمقارنة، فإن عدد اللاجئين السوريين في تركيا أكثر من المليونين، وقد أنفقت أنقرة لإيوائهم نحو ملياري دولار. وأنقذ حرس الحدود البحرية التركية 42 ألف لاجئ من الغرق هذا العام، و2160 الأسبوع الماضي، حسب "بي بي سي".
وعدد اللاجئين السوريين في لبنان مليون و150 ألفا، وفي الأردن 700 ألف، أي أكثر مما في أقطار أوروبا مجتمعة، وحتى العراق الذي يُصّدر اللاجئين يأوي 300 ألف سوري، معظمهم أكراد في كردستان.
واللاجئون السوريون والعراقيون، خريجو مدرسة رُعب "داعش"، لا تبدو عليهم الضعة والمسكنة، بل يعبرون حدود الدول بخطوات متحدية، يحملون أطفالهم على أكتافهم، ويرفعون مُسّنيهم فوق الأسلاك الفولاذية.
الطفل السوري "زين العابدين" عرضت الفضائيات صورته يبتسم، وساقه جرّحتها الأسلاك الفولاذية الشائكة. قال أبوه أحمد ماجد: "زين بطل، بكى داخله، حتى لا ينتبه حرس الحدود الهنغاريون".
وماجد اختاره فريق لاجئين سوريين لقيادتهم من أزمير، عبر البحر إلى اليونان، ومقدونيا، مشيا حتى الحدود الهنغارية التي أفلحوا في عبورها بعد ثلاث محاولات.
وضمن الفريق الصبية "غالية" التي قالت لمراسل "نيويورك تايمز"، إنها تحمل سكينا لحماية نفسها من عصابات تختطف الأطفال، وتقتلهم لاستخراج أعضائهم وبيعها.
مسيرة اللاجئين عبر أوروبا ليست بحجم آلام الأمة، لكنها مثل المسيرات التاريخية للأمم الكبرى، تُغير مجرى التاريخ.
صورةُ الطفل السوري "إيلان الكردي" ذو الثلاثة أعوام، منكفئا على بطنه، بقميصه الأحمر وسرواله الداكن، ونصف وجهه مدفون في رمل شاطئ البحر طعنت قلب البشرية.
بالكاد يبلغ طوله المتر، لكنه جعل سكان العالم يرون ما تَجنّبوا رؤيته طويلا، ملايين العرب والمسلمين القتلى والمشردين، وجَعلَ الغربَ يرى نفسه بعيون الشاعر شكسبير: "لضميري آلاف الألسن، وكل لسان يروي حكايات عدة، وكل حكاية تحكم عليّ بالنذالة". وما ضمير من لم يترك مأوى لطفل سوري غير قبر في بلدته المقبرة "عين العرب كوباني"؟
(عن صحيفة الاتحاد الإماراتية، 10 أيلول/ سبتمبر 2015)