تحاورت ذات مرة مع صديق حول الرفاهية التي تعيشها بعض القيادات الإسلامية والتي لا تتناسب مع مستوى الفقر والبطالة الذي تعاني منه نسبة كبيرة من أفراد الشعب، فأجابني بأن هذه الرفاهية من حر مال أصحابها، وبأن الله تعالى لم يحرم الملكية الخاصة، وأنه ما من بأس بأن يبني الغني برجا مشيدا من مائة طابق بجوار مقبرة ينام فيها فقير، لأن الله فضل بعض الناس على بعض في الرزق، وإلغاء الطبقات فكرة اشتراكية لا علاقة للنظام الاقتصادي الإسلامي بها، فلا يجوز أن تحاكم الإسلاميين إلى معيار من خارج قناعاتهم.
هل حقا هناك نظام اقتصادي إسلامي مغلق، أم أن الإسلام هو العدل، وكل صيغة يبتدعها البشر تحقق عدلا أكثر هي أقرب إلى روح الدين، والقرآن يعطينا مبادئ عامة لتحقيق العدل مثل كسر احتكار الأغنياء للملكية: "كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم"، وتحريم كنز الأموال دون عملية إنتاجية: "والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم".
وإذا كان القرآن يطرح هذه المعاني الروحية فإن مهمة البشر أن يستلهموا روح العدل الكامنة في النصوص ويصوغوها في أفكار اجتماعية وقوالب قانونية عبر ابتكار النظم التي تمنع تغول الأغنياء وسيطرتهم على الثروات، فكل تجربة بشرية حققت تقدما في هذا الاتجاه كانت أقرب إلى روح الدين، وحين ننقد تجربة الاشتراكية مثلا فلأن بإمكاننا الإضافة إليها وتطويرها بعد تفكيكها بما يحقق عدلا أكثر وليس رفضا لمبدأ الاستفادة من الأفكار والمذاهب الإنسانية.
يفتح القرآن الآفاق واسعة أمام الإبداع الإنساني عبر دعوة البشر للبحث عما هو أهدى وأقرب رشدا: "قل فأتوا بكتاب من عند اللّه هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين".
بالإضافة إلى الدلالة التعجيزية التي يتوقف عندها كثيرون في هذه الآية، فإنها تتضمن أيضا قيمة عملية، فلو افترضنا جدلا أنه قد جاء كتاب أهدى من القرآن فإن القرآن يأمرنا باتباع الكتاب الجديد، إن هذه الآية تحاكم القرآن إلى معيار من خارجه، وهو مدى قدرة أي كتاب على تحقيق عدل وهدى ورشد أكثر في حياة الناس، فإذا تجاوزنا حرفية الآية فإن الروح التي تنطوي عليها هي أن القرآن يدعونا إلى البحث المتجدد عن كل ما يحقق عدلا وصلاحا أكثر.
إذا كان القرآن بمعانيه الحرفية ومواضيعه المحددة يمثل أقصى العدل والهدى في ظروف تنزله التاريخية والاجتماعية، فإن الظروف التاريخية والاجتماعية التي تنزل القرآن لمعالجتها لم تكن هي الأفضل والأقرب إلى العدل عبر تاريخ الإنسان، لذلك إذا جاء زمان آخر وارتقى مستوى الوعي الجمعي وتراكمت التجربة البشرية بما يحقق مقدارا أكبر من العدل لم يكن الناس يعرفونه زمن تنزل القرآن فإننا هنا نحتاج مقاربة جديدة تخرج من الأحكام الفقهية التفصيلية وتستفيد من مراكمة التجربة البشرية وآفاق العدل الجديدة التي بلغها الإنسان لتوسيع إدراكنا لمعنى العدل قبل إسقاط المبادئ القرآنية الكلية على الواقع.
كان نظام الرق مستشريا زمن تنزل القرآن، وكان من المركزية في النظام الاجتماعي العالمي بما جعل إلغاءه مرة واحدة مستحيلا، لذلك لا نجد في القرآن الكريم نصا واضحا قطعيا يحرم الرق. صحيح أننا نجد أحكاما قرآنية تضيق مداخل الرق وتوسع مخارجه، لكن القرآن لم يسعه إلا التعامل مع هذا النظام حتى إننا نجد بعض تشبيهات القرآن متأثرة بذلك الواقع الاجتماعي: "ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون"، وما أنهى نظام الرق هو التجربة البشرية ومراكمة الوعي وتطور الحضارة وليس نصوص القرآن.
عملا بمعيار "أهدى منهما أتبعه": هل الأهدى هو تحرير الرقيق كإحسان فردي مع بقاء النظام، أم إلغاء النظام جذريا من حياة البشر! هنا جاءنا ما هو أهدى ليس بكتاب جديد نزل من السماء بعد القرآن، بل بكتاب التاريخ الإنساني الذي يتوصل في عواقبه إلى الحق والعدل: "سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق"، إذا فالقرآن أبقى الباب مفتوحا على مصراعيه للتفكير البشري حتى ليتجاوز الأحكام القرآنية ذاتها لما هو أهدى وأقرب رشدا..
في مثال آخر كانت الشعوب زمن تنزل القرآن تُحكم بالملك الفرد، ولم يكن الفكر الإنساني قد أنضج آليات الحكم الجماعي. صحيح أن القرآن في ذلك الوقت المبكر تضمن آية الشورى، لكن المناخ المعرفي والسياسي السائد أبقى الغلبة للحكم الفردي، ونشأ نزاع بين الفقهاء إن كانت الشورى معلمة أو ملزمة، وهو نزاع متأثر بالعصر أكثر من تأثره بفحوى النص، وحكم الخلفاء بعد النبي محمد صلى الله عليه وسلم وفق النظام السائد آنذاك، وكانت ضمانة العدل هي التقوى الفردية لشخص الخليفة، فإذا تقلب قلب الخليفة فإن الناس لم يكونوا يمتلكون من الآليات الدستورية والمعرفة السياسية ما يلزمون به الخليفة بالعدل، إن قصارى ما كان بمقدورهم فعله هو أن يناصحوا الخليفة ويعظوه، فإن لم يستمع لنصحهم كانوا يصبرون على ظلمه، فذلك أهون من فتنة الخروج عليه.
الآن نضج الوعي السياسي وجاء كتاب التاريخ بما هو أهدى فصار الحاكم مجرد موظف في مؤسسة الحكم الجماعي محدد الصلاحيات يمكن أن يحاسَبَ وأن يُقال من قبل السلطات الأخرى، ولم يعد الآمر الناهي الذي لا معقب لحكمه، فهل يصح أن يأتي من يقول إن نظامنا السياسي الإسلامي قائم على حكم شخص الخليفة كما كان الحال عليه زمن عمر بن الخطاب، وإن ما يحدث في أنظمة سياسية أخرى في العالم من حولنا هي تجارب غير إسلامية لا شأن لنا بها!
إن فردية الحكم في عصر الإسلام الأول ليست سنة نستن بها، بل كانت نتاجا طبيعيا لمستوى الوعي في ذلك الزمان، أما ما هو جدير بالاستنان فهو عدل الخلفاء، وقد تحول العدل في هذا الزمان إلى آليات جماعية وقوانين ملزمة يحاسَب من يخرج عنها وإن كان الرجل الأول في الدولة، أليس هذا أهدى سبيلا وأولى بالاتباع من أن يبقى العدل رهينة لمزاج فرد واحد يمكن أن يتقلب حتى لو كان هذا الفرد عمر بن الخطاب!
ذات المعنى يقال في النظام الاقتصادي، فإذا كانت مشكلة الفجوة الطبقية غير ناضجة التصور في عقول البشر في الأزمنة الغابرة، وإذا كان البشر يتصورون أن أقصى معاني الإحسان هو أن يلقي الغني بفتات مائدته إلى الفقير دون معالجة الأسباب الاجتماعية والاقتصادية التي سمحت للغني بمراكمة ثروته وحرمت الفقير من الحد الأدنى من حياة كريمة، ثم نضجت المفاهيم الإنسانية فصاروا يرون في الفجوة الطبقية مؤشرا غير أخلاقي تعاب به المجتمعات ويناضل المناضلون في سبيل تقليصها ورفع الحد الأدنى لدخل الفقراء وإلزام الأغنياء بمسؤوليات اجتماعية فرضا بالقانون، فإن الجدير بالمسلمين في هذه الحالة أن يكونوا أول من يساهم في انتصار هذه القضية أخلاقيا مهتدين بالمبادئ القرآنية العامة مثل تحريم الاكتناز والحث على تدويل الأموال بين الأغنياء والفقراء، لا أن يستندوا إلى نصوص منزوعة من سياقاتها أو إلى صيغ تاريخية لوقف التقدم البشري وتبرير واقع الفساد بغطاء شرعي.
الاقتصار على النصوص وحدها دون دراسة الأنظمة البشرية التي قطعت شوطا في اتجاه تقريب الناس من العدل ينتج فسادا مغلفا بغلاف ديني، والفساد ليس مقتصرا على السرقة الفجة، بل إن كثيرا من الأساليب التي يعتمد عليها الأغنياء في تضخيم ثرواتهم هي أساليب لا تمثل مخالفة قانونية ظاهرة ولكنها تستفيد من البيئة الاجتماعية ومن العلاقات العامة والاحتكار والاستغلال والتخلي عن المسئوليات الاجتماعية.
وأيا كانت التبريرات فإن الفطرة الإنسانية السوية تشمئز من مشهد فقير متسول لا يجد بيتا ينام فيه بجوار برج عاجي يسكنه ثري مهما سيقت تبريرات بأن هذا الغني قد بنى برجه من حر ماله وبذكائه الخارق وجهده الذاتي بينما ذلك الفقير قد صار فقيرا بكسله.
إن حكم الفطرة والصورة النهائية أصدق من كل التبريرات النظرية، وليس صحيحا أن الغني صار غنيا بجهده وحسب وأن الفقير قرر بمحض إرادته ألا يجد خبزا ومبيتا لنفسه ولأولاده بل هي سلسلة طويلة من اختلال الفرص واعوجاج المعايير الاجتماعية والفساد غير المعلن هي التي أنتجت الصورة النهائية البشعة..
لقد أدى اقتصار كثير من الإسلاميين على استلهام نماذج تاريخية دون تفكيك الواقع المعاصر واستيعاب آخر ما توصل إليه البشر من حكمة وهداية إلى تحالف بعض القيادات الإسلامية مع الطبقة الرأسمالية وانخراطهم في أنشطة تجارية تغيب عنها الرقابة والشفافية ويتم فيها استغلال مواقع المسئولية حتى لو كان استغلالا معنويا في تعزيز فرص الأرباح، مما أدى إلى تكون طبقة من الرأسماليين داخل الحركات الإسلامية.
لكن الأخطر أن هذا الانحراف الخطير يغلف دينيا، فبعد بناء البرج يكتب على واجهته: "هذا من فضل ربي"، ويكتب عليه أيضا: "لئن شكرتم لأزيدنكم"، وإن حدثت صاحبه عن التفاوت المختل بين مستواه ومستوى الفقراء المعدومين الذين لا يجدون طعاما ولا مأوى قال لك قاطعا الطريق أمام أي نقاش: " ورَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ" مع أن الآية تتحدث فقط عن تفاوت طبيعي داخل المجتمعات، ولا يوجد ما يمنع من سعي البشر إلى تقليص الفجوات وتعزيز مساواة الفرص وحسن توزيع الثروات فيظل التفاوت الطبيعي موجودا لكن بحد أدنى أكثر أخلاقية وعدلا..
الانفصال عن الواقع والاكتفاء بالنصوص وبتطبيقاتها التاريخية يحرم أصحابه من أداء رسالة الشهادة على العصر، وفي الوقت الذي يشغل أقوام أنفسهم بالبحث في بطون الكتب عن شواهد انتقائية تمنح الشرعية لحياة البذخ واختلال العدالة التي تهواها أنفسهم فإننا نجد بلادا غير إسلامية تقدم أروع نماذج النزاهة والشفافية والعدالة دون نصوص ولا فقهاء.