قضايا وآراء

الدنيا تغيرت والأحوال تتبدل

1300x600
الشاعر الرحالة مصطفى اللقيمي حين زار مدينة جنين في القرن الثامن عشر وصفها ببيتين جميلين من شعره:

يا حبذا يوما بجنين مضى ***  كالغرة البيضاء في وجه الزمن
فيها ثلاث للسرور تجمعت *** الماء والخضراء والوجه الحسن

ووصف اللقيمي امتداد ضمني لوصف ياقوت الحموي قبله بقرون حيث قال عن جنين بأنها أرض عيون ومياه، وفي يوم من أيام القرن العشرين قال الشاعر ياسين السعدي (واصف الشيباني) ابن قرية المزار المحتلة سنة 1948 القريبة من جنين، والذي عاش سنوات شبابه وكهولته في جنين وما زال يقيم فيها، فقال في شبابه عن جنين ما هو شبيه بل مطابق لوصف ياقوت واللقيمي:-
يا جنة (المرج) يجري في خمائلها*** نهر (المقطّع) مُنسابا على مهل
مدينة الورد يا بنت الخيال بها***عرائس السرو قد زُفـَّت الى النخَلِ
تموج رائحة الليمون عابقة*** تحيي النفوس وتجلوها من العلل

أسأل الله أن يمتع الأستاذ ياسين السعدي بالصحة والعافية، ولا أدري هل في جعبته قصيدة غير منشورة يصف بها جنين في سنواتها الأخيرة أم لا؟ حيث لم تعد جنين كما جاء في أبياته قبل عشرات السنين أو في بيتيّ اللقيمي ووصف الحموي قبل قرون، فالمدينة تعاني أزمة مياه خانقة ويضطر كثير من ساكنيها إلى شراء صهاريج مياه باستمرار صيفا وشتاء، ومكان البساتين والحدائق حلت البيوت والبنايات والمحلات التجارية، فلم تعد جنين اليوم هي جنين الماضي خاصة فيما يخص أكثر ما اشتهرت وعرفت به؛ أي المياه والزروع والبساتين الجميلة، بل صارت على نقيض ذلك!

بدأت بجنين حيث أقطن من أجل فكرة نحاول دوما مقاومتها أو التهرب منها؛ وهي أن الأحوال تتغير والظروف تتبدل، فيصبح أمامنا اليوم الشيء على نقيض ما كان بالأمس، فنحاول تجاهل هذه الحقيقة، بالحنين إلى جزئيات ماض لن يعود، وهذا الحنين طبيعي، أو بمحاولة إنكار الواقع المعاش أو التعامي عنه وتجاهل مخرجاته ونتائجه على مسار حياتنا، والتصرف أو الحديث وكأن التغير لم يحصل، والتبدل وهم لا حقيقة قائمة!

نحن العرب ما زلنا نفاخر بما قدمنا للإنسانية من اختراعات وعلوم ومعارف قبل قرون خلت؛ وننسى أننا في حالة من الجهل والتخلف، وأن من نـقول عنهم أنهم كانوا في دياجير الظلام قبل قرون، بات تعريف الأمي عندهم هو من لا يتقن استخدام الكمبيوتر، فيما لدينا عشرات الملايين ممن لا يعرفون كتابة كلمة واحدة على ورقة بقلم حبر أو رصاص!

كانت بغداد عاصمة الدنيا بأسرها، وكعبة المجد والخلود، واليوم بغداد تغرق في الدم والفوضى... وكانت دمشق درة الشام وجوهرة نفيسة من حواضر الدنيا، بل شعبيا يقال عن دمشق (الشام) واليوم نرى أن دمشق وغوطتها الشهيرة تشهد حربا مدمرة لا ندري كيف ستنتهي، أما اليمن السعيد فهو في حرب وفقر، وانقلبت سعادته بؤسا، وفقد البن العدني واستبدل بالقات!

أما مصر التي في زمن نبي الله يوسف أطعمت بلاد الشام وما حولها بسبب القحط والجوع، وكررتها عام الرمادة زمن خلافة عمر-رضي الله عنه- فأرسلت الطعام إلى المدينة المنورة وما حولها، وظلت التكية المصرية تقدم الطعام حتى ما قبل قرن من الزمان، فقد صارت مصر دولة تعيش على مساعدات وعطايا وهبات دول الخليج، ويعم الديار المصرية الفقر والعوز وضيق ذات اليد سمة نسبة كبيرة من أهلها،  وبعدما كانت مصر تخرج كبار العلماء والشعراء والأدباء المتميزين الذين لا يتسع المقام لذكرهم كشوقي والبارودي والمنفلوطي والرافعي والشعراوي، صار يطلع من مصر مشايخ الفتاوى الشاذة الغريبة، وأدباء نهين من ذكروا لو قارناهم بهم!

دول الخليج أنعم الله عليها باكتشاف الذهب الأسود في باطن صحاريها، فلم يعد أهل الحجاز ينتظرون موسم الحج، ولم يعد أهل جزيرة العرب ينتقل كثير منهم وراء الماء والكلأ، بل صارت بلادهم مقصدا لملايين الناس للعمل والرزق، وصارت المدن الخليجية التي كانت يوما ما بوادي جرداء، أو مضارب خيم، أو في أفضل الأحوال بيوت طين متناثرة، تضاهي اليوم في تصميمها العمراني مدنا حديثة في الغرب وتتمتع بخدمات فقدت من مدن العرب التاريخية العريقة مثل حمص والبصرة التي هرمت واكتهلت.

ولم تعد القاهرة عاصمة الإعلام العربي بفضل وجود إذاعة (صوت العرب) فقد صار هناك قناة الجزيرة في الدوحة عاصمة قطر، وقنوات أخرى في دبي، صارت من أقوى وأهم أدوات تكوين الرأي، بعدما تربعت (الأهرام) على عرش الإعلام العربي في زمن انقضى وصار تاريخا.

لا يقتصر الأمر على العرب في التغير والتبدل، فمثلا اليونان بلد الفلاسفة الكبار كأفلاطون وأرسطو وهو البلد الذي أسس الديموقراطية تعاني من أزمة مالية كبيرة، ولها نظام سياسي متخلف مثلوم الديموقراطية مقارنة بالجوار أو المحيط الأوروبي الذي لم يكن له قيمة أيام أمجاد الإغريق.

بل إن الولايات المتحدة الأمريكية التي لها كلمة عليا أو بصمة في كل سياسات العالم واقتصادياته لم تكن بلدا ذا قيمة تذكر قبل 200 عام ولم يهتم بها أحد قبل 70 عاما.

ولا يمكن الهروب من الجرح الغائر؛ فالمسجد الأقصى أسير بيد الحركة الصهيونية، وصلاة المسلمين فيه رهن بتقديرات (الشاباك) وفلسطين اغتصبت وشرد أهلها واعترف العالم أو تواطأ باعتبار حيفا ويافا وعكا والرملة المغتصبة هي (إسرائيل)...وبات حالنا مثيرا للدهشة التي تذكرنا بأغنية شادي البوريني (ما هذا؟).

ولعل مراحل حياة الإنسان على الأرض في خلقه من تراب ثم من نطفة إلى الشيخوخة والموت  وكذلك الزرع واختلاف أحواله عبر الفصول، يعطينا فكرة عن سنة التغير والتبدل على هذه الأرض...فمحاولة التعامي والتغاضي عن التغير والتبدل تدخل في باب الحمق أو المكابرة، وهي لا تغير مسار الحياة وتعود بالضرر على صاحبها.

ولكن هل كل تغير وتبدّل ينبغي الاستسلام له والخضوع لنتائجه وظواهره وأعراضه؟ كلا، فهناك تغير شاذ غير طبيعي يجب مقاومته ورفض الاستسلام له، لأنه لم يأت في سياق تطور طبيعي في مسار الإنسان، مثل الاحتلال الصهيوني، أو الاستبداد والقهر والتخلف العلمي والذل بعد العز، فهذه من التغيرات والتبدلات التي ينبغي التصدي لها وعدم الركون لنتائجها.

وهناك من يتعامل مع تبدلات صارت أمرا واقعا بمنطق رومانسي حالم، مثل عودة خريطة سورية والعراق إلى ما كانتا عليه، كما رسمتا بعد الحرب العالمية الأولى، ولا يصدق أو لا يريد أن يصدق أن التاريخ لا يعود إلى الوراء، وأننا أمام خرائط جديدة.

وهناك من يحلم بضخ الحياة أو الشباب في قوى سياسية وتكتلات حزبية شاخت وذابت أو تكاد وانفض الناس من حولها، متعاميا عن وجود قوى أخرى صاعدة وشابة عودها صلب، بحكم التدافع وسنة الاستبدال تحل محل الأولى، فهو لا يؤمن بسنة الله في التغيير.

وهناك من ينتظر تغيرات في العالم تعود علينا -بظنه وتقديره- بالنفع دون أن نتحرك ونتفاعل ونحاول الاستفادة، وكأن التغيرات الدولية المشتهاة ستنعكس إيجابا علينا تلقائيا؛ فمثلا ينتظر هؤلاء عودة أمجاد روسيا كما كانت أيام السوفييت، أو أن تكون الصين هي القوة العظمى بدل الولايات المتحدة؛ ولا أدري ماذا سنستفيد ونحن على حالتنا؟ أم أننا إذا كنا في زمن الهيمنة الأمريكية قد صار لدينا مطاعم تقدم الهمبورغر والبروست، فإننا ربما في الزمن الصيني المنتظر سيكون لدينا مطاعم تقدم وجبات فئران مشوية وثعابين مسلوقة!

فالتغير والتبدل في أحوال الإنسان ينسحب على الدول والمجتمعات والأحزاب والقوى السياسية؛ وهناك نوع من التغير شاذ يجب مقاومته والتصدي له، وهناك متغيرات ينبغي التعامل معها كواقع وتجنب ضررها والسعي للانتفاع مما يمكن الانتفاع به من نتائجها، ومتغيرات منتظرة متوقعة في علم الغيب يجب عدم تجميد الحياة وتعطيل الحركة انتظارا لها أو تمنيا بالانتفاع من مخرجاتها.