من المفارقات العجيبة أن الأمم المتحدة، صاحبة القرار 2216 بشأن اليمن، هي ذاتها صاحبة مبادرة جنيف، والمتحمسة لها أكثر من أي طرف آخر، بطريقة تبعث على الريبة والشك، ولست أعلم وفق أي منطق يستقيم مثل هذا الأمر، عدا في المنطق الأمريكي، الذي بات يستخدم الأمم المتحدة، لتحقيق أجنداته السياسية في المنطقة العربية والخليج، بطريقة فجة ووقحة، لم تعد تراعي حتى الأعراف الدبلوماسية، والسيد الأمين العام ومندوبيه، لم يعودوا سوى أدوات وموظفين لدى الإدارة الأمريكية، بلا حول ولا قوة.
تفاجُؤ الأمريكان بعاصفة الحزم أربكهم تماما، كما أغضبهم وأغاضهم بذات الوقت، حاولوا إخفاء غضبهم ونجحوا إلى حد ما، لكن الإرباك كان باديا من خلال سلوكهم وأفعالهم، أعلنوا تأييدهم للعاصفة علنا، واستماتوا لإفشالها في الخفاء، وافقوا على القرار 2216، وسعوا لعرقلة تنفيذه على الواقع.
لم يكن في تصور الأمريكيين مطلقا، أن تقوم المملكة العربية السعودية، بمثل هكذا خطوة هامة وجريئة، دون الرجوع إليهم أو حتى أخذ مشورتهم، لم يستوعبوا بعد أن ثمة أمورا كثيرة قد تغيرت في المملكة، وأخرى في طريقها إلى التغيير، لم يدركوا أنها قد بدأت بالفعل خطوتها الأولى، في طريق استقلالية قرارها بعيدا عن وصايتهم، وإن بشكل متدرج.
أمريكا تدرك جيدا أن حوار جنيف لن يضيف جديدا لليمنيين، فمنذ ثلاثة أعوام واليمنيون يتحاورن، وقد خرجوا بوثيقة هامة وقع عليها الجميع بمن فيهم الحوثيون، هي مخرجات الحوار الوطني، حتى أصبحت فيما بعد مرجعا هاما يضاف إلى المبادرة الخليجية، ثم بعد "عاصفة الحزم" واجتماع الرياض، -الذي حضرته كل الأطياف اليمنية بلا استثناء، عدا جماعة الحوثي-، تولدت مرجعية جديدة هي إعلان الرياض، ويضاف لكل ما سبق القرار الأممي رقم 2216، الذي جاء تحت الفصل السابع، ما يعني أن أي حديث بعد ذلك عن الحوار بين اليمنيين، لا يستند إلى كل تلك المرجعيات، هو نوع من العبث الذي لا طائل منه، والذي لن يخدم سوى رغبات أمريكية غير معلنة.
بالمختصر المفيد، أمريكا لا تريد لـ"عاصفة الحزم" أن تنتصر أبدا، لأن ذلك سيعني نجاحا للدبلوماسية السعودية والعسكرية معا، وهذا ما لا تريده أبدا، فهي من دعمت الحوثي للسيطرة على اليمن، ليكون بمثابة الخطر الإيراني الذي يتهدد السعودية، وهو الباب الذي أرادت أن تعبر منه لمزيد من الابتزاز للسعودية ودول الخليج في المرحلة المقبلة، وخيرا فعلت المملكة، حين أوصدت هذا الباب بكل حزم وقوة.
أمريكا أرادت معاقبة السعودية من خلال جنيف، لتجرؤها على الخروج من بيت الطاعة الأمريكي، من خلال إقدامها على "عاصفة الحزم"، الأمر الذي أصابها بالهلع والذعر، ورأت فيه خطوة خطيرة يمكن أن تقود إلى خطوات أكثر جرأة، كقيام حلف عربي حقيقي، على نطاق أوسع من التحالف العشري لعاصفة الحزم، كما وتفعيل حقيقي لدور الجامعة العربية، وإقامة منظومة دفاع عربي مشترك، تتبنى عملية الردع لأي أخطار خارجية، تتهدد الدول العربية، ولربما وصل الأمر حد قيام تحالف عربي وإسلامي لردع الكيان الصهيوني، وهو ما تخشاه أمريكا فعلا، ومع أن أمرا كهذا يبدوا نوعا من حديث التمنيات في اللحظة الراهنة، لكنه قد يصبح حقيقة على المدى المنظور، إذا ما كانت هناك نوايا جادة للسير في هذا الاتجاه، خصوصا من جهة المملكة.
على المملكة العربية السعودية أن تقوم بخطوتين هامتين، إذا أرادت فعلا أن تلجم الأمريكيين والإيرانيين معا، وتضع حدا لتدخلاتهم في المنطقة، وهي تستطيع ذلك في حال توفرت الإرادة السياسية لدى صانعي القرار فيها.
الخطوة الأولى: العمل على تعزيز تقاربها مع تركيا، وتشكيل حلف قوي يضمها إلى جانب تركيا وقطر، بدرجة رئيسية، كما بقية دول الخليج ومعها مصر بدرجة ثانية، وبالطبع لا يعني ذلك القطيعة مع الولايات المتحدة الأمريكية، ولكن من خلال العمل الدبلوماسي المتوازن، الذي يضع مصالحها أولا، دون خوف أو مواربة من الأمريكان.
الخطوة الثانية: أن تزيد من وتيرة دعمها للمقاومة الشعبية في اليمن، وهذا أمر في غاية الأهمية، وبخاصة في جبهات عدن وتعز ومأرب، حتى تستطيع إحداث تقدم على الأرض، يدعم سقف مطالبها في جنيف أو أي مكان آخر، ويضع الأمم المتحدة والأمريكيين أمام الأمر الواقع على الأرض، الواقع الذي يجب أن يقول اليوم قبل الغد، بأن المقاومة تتقدم بشكل يقلب موازين القوى لصالح الشرعية، الواقع الذي يقول بأن المملكة لا يمكن أن تحرز أي نصر حقيقي على الحوثيين، إلا من خلال انتصار المقاومة الشعبية على الأرض، وأي حديث غير ذلك ليس سوى رقص على أنقاض اليمنيين وأشلائهم.