كتاب عربي 21

"أبو تريكة" في أرض الجنون

1300x600
1-

لو كان محمد أبو تريكة في بلد آخر لنُحتت له التماثيل وسُميت باسمه الميادين ووُضعت قصة حياته في المناهج الدراسية كنموذج لشاب موهوب فقير أصبح باجتهاده وعرقه تاجرًا للسعادة، لكن لسوء حظه أنه وُلد في مصر التي تُخوّن عصام حجي وتحتفي بإبراهيم عبد العاطي، وتمنع باسم يوسف وتفتح الهواء لأحمد موسى، وتُطارد بسمة وعمرو واكد وتُكرّم نهال عنبر وطلعت زكريا.

كان من الطبيعي في أرض الجنون ألا يمضي أبو تريكة عامه الأول بعد الاعتزال متنقلا بين حفلات التكريم، لكن بين قاعات المحاكم ومباني النيابات، وبدلا من أن تلاحقه الصحف ليحكي كيف صنع مجده، تلاحقه ليدفع عن نفسه تهمة دعم الإرهاب والانتماء لجماعة الإخوان.

أبو تريكة الذي رفع شعار "تعاطفا مع غزة" في وقت صمت فيه قادة العرب جميعا على إرهاب إسرائيل متهم الآن بدعم الإرهاب، أبو تريكة الذي لم يترك بابا للخير إلا طرقه متهم الآن بقيادة تحالف الشر، أبو تريكة الذي سخر حياته لإسعاد المصريين متهم الآن بقتلهم، والمدهش أن من يتهمه بذلك هو نفسه الذي قتل المتظاهرين والمعتصمين وحاملي الورود!

2-

في أرض الجنون يصبح العقل تهمة، وإسعاد الناس خيانة، والنطاعة وطنية، والغباء خصلة حسنة.
أسوأ ما فعله فينا مبارك وتلاميذه أنهم جعلونا آلات بلا مشاعر، لذلك يرى كثيرون أن كل ما يفعله أبو تريكة تمثيل، لا يفترضون أنه إنسان حقيقي ولا يصدقون أن لاعب كرة يمكن أن يكون بهذا الخلق، لاعب الكرة في نظرهم هو الذي يشترك في برنامج رقص أو يلتقط صورة لنفسه مع "قرن فلفل" أو يتم ضبطه في وضع مخل، لذلك لا يشتمون كل هناك لأنهم في نظرهم "طبيعيون" ويشتمون أبو تريكة لأنه يمثل التقوى ويدعي الورع.

فلأن تدّعي الورع في رأيي خير من أن تجاهر بالقبح.

3-

"البعض استغل صمتى، لترويج شائعات مغرضة، أبرزها على سبيل المثال أنني ذهبت إلى ميدان رابعة وقت اعتصامات الإخوان، وأنني قمت بإمداد الجماعة وقت تلك الاعتصامات بمولدات كهربائية، وكانت آخر الشائعات الصورة التي انتشرت في عدد من وسائل الإعلام ومواقع التواصل وهى صورة لي مع سيدة مسنة ادعى البعض أنها والدة أحد المتهمين في أحداث كرداسة، وحقيقة الأمر أنها صورة لجارة لنا في ناهيا، وأتحدى أي شخص يثبت عكس تلك الحقائق. مع الأسف كنت ضحية لصفحات مزورة على مواقع التواصل الاجتماعي، وهو ما دفعني لتوثيق حسابي الجديد".

هذا ما قاله أبو تريكة في حواره مع "الأهرام" في أول ظهور إعلامي له بعد الأزمة، رد فيه على كثير من الشائعات التي نُسبت إليه، وكشف أن شريكه الإخواني في شركة السياحة ترك الشركة أصلا في 28 ديسمبر 2013 ولم يعد مديرا مسؤولا عنها كما يزعمون، ورغم كل ذلك امتلأت التعليقات على الحوار بتعليقات تحمل أطنانا من الغل والبغضاء ضد الرجل الذي لقبوه من قبل بـ"أمير القلوب".

كان أكثر التعليقات غرابة شخص علق على الحوار قائلا: "ومن كتب على حسابه الخاص أنه زود اعتصام رابعة بمولدات الكهرباء وضلمها ياسيسي"، فبعد عدة سطور من تأكيد أبو تريكة أن الحسابات التي نسبت إليه ذلك مزيفة وأن حسابه الرسمي موثّق، يطرح عليه شخص كهذا نفس السؤال، هذا مثال لفئة تعيش بيننا محاولة إقناعها بالعقل تضييع بالعقل، فلكي تقنع أحدا بالعقل يجب في البداية أن يكون لديه عقل أصلا!

ربما أجد مبررا لنظام يريد أن يشكك في كل الرموز ليبقى هو النموذج الوطني الوحيد، لكنني لا أجد عذرا للملايين الذين أسعدهم أبو تريكة لسنوات وكان هو مصدر فخرهم الوحيد وينهشون في لحمه الآن.

4-

ستنتهي المحنة آجلا أم عاجلا، سيعود كل إلى حجمه، سيرجع كثير من الإعلاميين إلى عملهم السابق كمخبرين في أمن الدولة يبلغون عن زملائهم ويطلعون المسؤولين في الداخلية على آخر التطورات داخل صحفهم، سيتقاعد رئيس الوزراء ويقضي أوقاتا لطيفة في نادي الجزيرة، سيصطدم به شاب ويلتفت إليه ليعتذر: "أنا آسف يا والدي" دون أن يعرف أن هذا الرجل كان في يوم من الأيام رئيس حكومة، سيصبح كثير من المسؤولين ذكرى ولن تذكر أسماؤهم مرة أخرى سوى في لوحة المسؤولين السابقين في الوزارات والهيئات التي لا يتوقف أمامها أحد، وسيبقى اسم أبو تريكة صامدا ووجهه محفورا في ذاكرة الملايين وسيعرف شكله وتاريخه وإنجازاته حتى من سيولدون بعد سنوات من الآن.
لأن الزبد يذهب جفاء، ولأن ما ينفع الناس يمكث في الأرض.