صدق من قال إن الإعلام يعبر عن المرحلة ويعكس أمراض المجتمع، وفي مصر بلغت الأمراض الاجتماعية ذروتها، لدرجة قد توحي بصعوبة علاجها، بفعل نظام دموي يحكم قسرا ويكره الحياة.
منذ بدء مرحلة إعلام القطاع الخاص في مصر، في إطار عملية توزيع الأدوار التي أجادها حسني مبارك ونظامه، للإيحاء بأن هناك حرية إعلام قائمة، في نظام شبه ديمقراطي، شكلا، حدث تغيير بالفعل في المجتمع المصري، على كافة المستويات والأصعدة. وليست مناقشة سلوك الإعلام الخاص في مصر، باعتباره الأكثر قبحا وفجاجة في العالم العربي، وإنما باعتباره أيضا شبه الوحيد، في منطقة تخضع كلها لإعلام النظام، كما في معظم الدول العربية، أو إعلام التيارات المسيطرة كما في لبنان.
ومنذ أكثر من 10 سنوات من تاريخ السماح بظهور نمط ملكية جديد بالدخول لساحة الدعاية التي امتهنتها النظم السياسية المتعاقبة، تحولت وسائل الإعلام الخاصة، وعلى وجه الأخص منها قنوات التلفزة إلى منصات كراهية وتحريض على السلم الأهلي وتدمير المجتمع بصورة تجعل المسؤول عن هذا الوطن يقف وقفة حازمة إزاء هذه الممارسات التي لا تندرج إلا تحت بنود الإرهاب وتدمير المجتمع وهو ما يمكن رصده من خلال متابعة قنوات مصر السابحة في فلك الانقلاب الوحشي.
الأداء الإعلامي الذي لا يجد من يردعه ويقف أمامه، في ظل نظام استمرأ عمليات القتل والترويع الوحشي بحق الإنسان، باتت أكثر وقاحة وفجاجة، بعد التغيير الأخير الذي شهدته العلاقات المصرية الخليجية عقب وفاة العاهل السعودي عبدالله بن عبدالعزيز، فالمتابع لمثل هذه الوسائل، يرى خطابا إعلاميا أسود، أيد الشيء ونقيضه خلال شهور وجيزة فقط، وروج لضلالات وأكاذيب وهمية، لا يمكن أن يصدقها عقل أو يقبل بها منطق، وساهم بصورة مروعة في التحريض على القتل والاحتراب الأهلي.
لكن المثير للاستغراب هو إصرار جهات خليجية بالإنفاق ببذخ على هذه الوسائل، ومنح مذيعين وصحافيين، قليلي القيمة والموهبة ملايين الجنيهات، بينما هم يمارسون جرائم بحق الفقراء والمتلقين الذين لا يرغبون في إعمال العقل لفهم ما يتلقونه من رسائل.
تنفق هذه الجهات على مذيعين، يعلمون تماما، رداءة سلوكهم وانحطاط أهدافهم وقيمهم، إذ إن من اخذوا الملايين بالأمس القريب انقلبوا وتحت تأثير ابتزاز من نوع أخر يمارسه نظام سيئ الخلق، لمهاجمة أنظمة الدول التي ترعاهم وتمنحهم هذه الأموال، وليس أبلغ مثال لذلك، من المذيع إبراهيم عيسى الذي منحته قناة أم بي سي السعودية برنامجا يقال إنه يضخ في ثروته سنويا 4 ملايين جنيه، في حين أن هذا المذيع انقلب رأسا على عقب على سياسة المملكة بعد وفاة عاهلها، وتعامل معها تماما مثلما يتعامل مع حزب النور السلفي، وهو منطق المصلحة الذي يدفعه للهدوء قليلا أمام من يكرهه ثم ينقلب عليه فور أن يراه يهدد مصالحه ومصالح من يوجهونه، مع الإشارة إلى أن القناة أعلنت أنها أوقفت هذا البرنامج لسوء مستواه.
هذا الإعلام الرديء يجب أن تعي خطورته دول الخليج قبل غيرها، فالإنفاق ببذخ على رويبضة العصر وماسحي الجوخ وقوادي السلطة، لن يكون ذا قيمة للأنظمة الداعمة ولا لشعوبها، فزيارة محدودة لموقع التواصل الاجتماعي تويتر، تظهر موقف شعوب الخليج من هذه المنصات وحقارة ما تقدمه، إذ إن الفضاء المفتوح الآن لم يعد حكرا على أحد، ولم تعد الشعوب منقادة بما تمليه عليها الحكومات، ومتابعة تغريدات السعوديين مثلا، ستجد إدراكهم الكامل لأن الإعلام الذي شوه صورة الرئيس محمد مرسي بأكاذيب وضلالات وساهم في قتل شعبه، لن تسلمه منه دول الخليج إذا ما أوقف المال، أو ما بات يسمي بالرز الخليجي، وفقا لوصف قائد الانقلاب نفسه في تسريب له مع مدير مكتبه.
وفي هذا الصدد فإن على المملكة العربية السعودية، بعد تبنيها سياسية جديدة أن تغير تعاملها التام مع نظام السيسي في مصر ومع إعلامه الذي بات وسيلة تشبيح، وإعلاميوه أصبحوا مجرد شبيحة للنظام الحاكم، إذ لم يعد من المقبول أن تستمر المملكة أو جهات بها في دعم شبيحة نظام أول ما فعلوه هو الانقلاب على مموليهم والإساءة لحكامهم، ويتضح ذلك جليا في الحالة السعودية، التي لم تسلم من بذاءات هؤلاء الشبيحة، ولا من منصات الكراهية التي يعملون بها، كما أن المملكة مطالبة أيضا بتغيير الخطاب الإعلامي لقناة العربية، شبه الرسمية، من النظام الانقلابي في مصر، إذ لم يعد من المقبول أيضا أن تدعم القناة نظاما، يخون كفلائه بعد أن خان شعبه ورئيسه المنتخب، وبصورة أوضح مما سبق على السعودية أن تنفض يدها عن نظام وحشي من المؤكد أنه يعمل في الخفاء ضد مصالحها مع إيران وجماعة الحوثي وإسرائيل.
وفى الأفق المنظور تلوح بوادر خريف لإعلام الشبيحة في مصر، إذ بدأت عدة قنوات ممولة خليجيا أو داخليا من رجال أعمال متهمين بالفساد، بتقليص برامجها والاستغناء عن عدد من العاملين بها، بسبب أزمات مالية تضربها، هذا الوضع لن يسمح به النظام الوحشي لأن هذه المنصات بالنسبة إليه أهم بكثير من أجهزة الأمن التي تنفذ عمليات القتل المباشر بحق المعارضين، لكنّ نظاما غارقا في الفساد والفشل وفي أزماته المالية الطاحنة، سيكون مزعوجا بالضرورة من رفع الخليج دعمه لهذا النوع من الدعاية السوداء.