منذ عشرة سنوات قال لي صديقي وهو ينافح عن الليبرالية ويدافع عن أفكارها "لعل العلمانية تكون حلا مناسبا ومخرجا ملائما من المعضلة السياسية والاستبداد الأعمى الذي نعيشه فبعد زوال النظم المستبدة يقصد نظام مبارك لابد من نظام يحكم ولابد أن يتمتع هذا النظام بعدة سمات أهمها عدم معاداته لأي مكون من مكونات المجتمع وعدم اعتراضه على أي من هذه المكونات في حالة الوصول إلى الحكم طالما كان هذا الوصول مستندا إلي رغبه شعبية ....".
ففي رأي صديقي أن الليبرالية والعلمانية لا تتقاطع مع الأفكار الإسلامية ولا تعترض على وصولها للحكم عبر الآليات المعروفة ولا مانع في هذا الصدد من قبول الديمقراطية كفكرة محايدة وآلية مجربة مدللا على صحة فكرته بالمسألة التركية التي أفضت إلى وصول محسوبين على التيار الإسلامي للحكم عبر نظم وآليات علمانية.
العجيب أن نفس الصديق الآن يحدثني عن محاسن العسكريتايا وكيف يمكن أن تكون ضمانه حقيقية لعدم طغيان تيارا ما على الحياة السياسية صونا للمجتمع من العبث بهويته وثقافته وتراثه الحضاري وسبيلا لوضع أكثر استقرارا وديمقراطية على حد تعبيره.
وبغض النظر عن التحول المبادئ الملاحظ على معظم النخبة والتشوه الفكري الحاصل نتيجة الارتماء في حضن السلطة والتسلح بخالبها يمكننا نقض شبهة "العسكريتاريا هي الحل" لغويا وتاريخيا وواقعيا.
(1)
عرفت المعاجم اللغوية كلمة "عسكر" بعيدا عن الرطانة الصعبة والصياغة المتكلفة،
فالعسكر والعسكرة: الشدة والجدب
وعَسْكَرَ اللَّيْلُ: اِشْتَدَّتْ ظُلْمَتُهُ
وعَسْكَرَ الشَّيْءَ: جَمَعَهُ
وعَسْكَرَ القومُ بالمكان: تجمعوا
وعساكر الهم: ما ركب بعضه بعضا وتتابع
والعَسْكرُ: الجيشُ، ومجتمعُه
والعَسْكرُ: الكثيرُ من كلِّ شيء
وعَسْكرُ الليلِ: ظُلْمَتُهُ
وانْجلَت عنه عساكرُ الهموم: زال هَمُّهُ
"انظر تاج العروس، لسان العرب، مختار الصحاح".
فالكلمة مرتبطة بالشدة والجدب والهم والظلمة وهي مفردات لا تصلح للمجتمعات المدنية التي هي أحوج ما تكون إلى الرحمة والرأفة ورفع الإصر وتذليل سبل الحياة بدءا بالضروريات مرورا بالحاجيات وصولا إلي التحسينيان أو بتعبير أخر توفير الرفاه الاجتماعي والاقتصادي والثقافي الذي يعني توفر أدوات الحضارة ومن ثم ممارستها.
(2)
تاريخيا صعدت العسكريتاريا العربية إلى سدة الحكم في سوريا والعراق ومصر والجزائر وليبيا واليمن والسودان من خلال انقلابات عسكرية شهد معظمها حفاوة شعبية واستبشارا بقرب تحقق أحلام الشعوب في الحرية والكرامة والعدل.
استقبل العسكر هذه الحفاوة وهذا الاستبشار بخطاب ديماجوجي يستند إلى الشعارات البراقة والرايات الخادعة وتصدير المخاوف والهواجس الموهومة للجماهير التي تسلك تحت سيف الخوف والرهبة والطمع سلوك المسحور المشدود إلى الساحر وهي طريقة فرعونية قديمة في تغييب وعي الشعب والاستيلاء على إرادته كما أنها سياسة فعاله لصناعة جماهيرية زائفة قائمة على حشد الناس على اللهو والزينة ومن ثم تصوير الجموع على أنها مؤيده مبايعة.
ولا شك أن فقدان العسكريات العربية جزءا كبيرا من وظيفتها الأساسية التي هي التدريب المتواصل والعمل المستمر والدؤوب لرفع الكفاءة والتحفز لإنجاز مهامها في الدفاع عن الوطن ضد الأخطار الخارجية لصالح انشغالها بالسيطرة على مقاليد الحكم ومفاصل الأمور بل وتفصيلات الحياة اليومية يفسر الإخفاق الكبير أمام العدو الصهيوني الذي ما زال يحتل الأرض ويستبيح العرض وينهل من المقدرات العربية دون رقيب أو حسيب.
ولعل تضخم الأنا لدى العسكريات العربية وسعيها الدائم للحصول على تمييز اقتصادي واجتماعي للمؤسسة ومنتسبيها على حساب باقي الشعب جعلها تنشغل عن ملفات التنمية الشاملة وعليه لم نجد مجتمعا عربيا حكمه العسكر فنهض به ووضعه علي خريطة الدول المتقدمة بل العكس هو الصحيح: صعود العسكريتاريا يؤشر لحالة عامة من التردي والانحطاط والتخلف عن ركب الحضارة والتمدن ومراجعة التجارب في دول كسوريا والعراق ومصر والجزائر وليبيا واليمن والسودان كفيلة بالتدليل علي صحة هذه الفرضية التي أصبحت لدي معظم الدارسين في حقل العلوم السياسية والاقتصادية والاجتماعية من المسلمات.
وفي تقديري إن السبب يكمن في الذهنية المسيطرة على العسكريين العرب والتي يصفها المؤرخ العراقي سيار الجميل بقوله:
"بقيت الذهنية المسيطرة على تفكير كل الضباط العرب الانقلابيين متناقضة مع كل ما هو متمدن ومتعدد وديمقراطي حر، فكل الزعماء العرب الذين جاءوا من رحم هكذا بنية لها طقوسها وأساليبها وأعرافها حتى الاجتماعية حكموا البلاد العربية عقودا طويلة من السنين بعقلية الثكنة العسكرية وإصدار الأوامر والأحكام السريعة من دون أي قوى سياسية ولا منظمات مدنية، بل ووصل الأمر في كل من مصر والعراق وسورية وليبيا والسودان والجزائر أن ينصب الانقلابيون من بينهم رئيسا للجمهورية من دون أي انتخابات عامة! ويتضح اليوم كيف يورث الرؤساء العسكريون للجمهوريات العربية أولادهم مقاليد السلطة العليا ضاربين بعرض الحائط كل القيم الدستورية والأعراف الجمهورية ليصنعوا من أنفسهم أرباب حكم من خلال فرض عسكريتاريا فاشية غليظة كتلك التجربة التي مارسها أدولف هتلر في ألمانيا النازية عندما حولها إلى ثكنة موبوءة بالتقاليد الفضة، فبدل أن يحمي العرب ترابهم وحدودهم من خلال جيوشهم، أصبحت تلك الجيوش عبئا خطيرا على الأنظمة السياسية، تتربص الفرص للانقضاض والتدخل والسيطرة على الأمور وكأنها ليست جزءا من السلطة بل كل السلطة، وهنا يتحول المجتمع المدني بالضرورة إلى مجتمع عسكريتاري مشوه حيث تفتقد المؤسسات المدنية تقاليدها ومكانتها في المجتمع ".
وهنا أسأل أصدقائي العلمانيين والليبراليين المتحولين:
ألم يصعد المجتمع العسكري في معظم الأقطار العربية ويتصدى للحكم فيها فماذا أنجز؟؟
ألم تكن خطوط نضالكم المتقدمة ضد العسكريتاريا وحكمها السلطوي؟؟
ألم تكتوي الشعوب عبر العالم بنار العسكر واستبداده؟؟
ألم يكن نظام مبارك نظاما عسكريا فاشلا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وتشريعيا وأمنيا؟؟
ألم تفشل العسكريات العربية فشلا ذريعا في حماية الأمة من تداعيات المشروع الصهيوني وأهدافه التوسعية؟؟
(3)
واقعيا تثبت العسكرتاريا فشلا ذريعا في إدارة شئون البلاد فمنذ الانقلاب حتى الآن لم نجد خروقات ايجابية حقيقية في أي ملف من ملفات مشكلات مصر المتراكمة والمتراكبة فما زالت أزمات داخلية كالبطالة والفساد والفقر والتعليم والنظافة والمرور والأمن والعشوائيات وتدني المرتبات في معظم القطاعات وزيادة أسعار السلع والخدمات ونقص السلع التموينية مع رفع الدعم جزئيا ونقص الوقود وتدني خدمات الصحة والمرافق وضعف الصناعة والاستثمار وضعف الصادرات وتضخم الواردات وتضخم الدين الداخلي والخارجي وغيرها من الأزمات التي تكاد تعصف بالوطن والمواطن في ظل انشغال النظام الجديد بتوطيد أقدامه وسحق خصومه السياسيين وتجميل صورته الخارجية.
عام كامل من الفشل وإثقال كاهل المواطن بمزيد من العبء عبر سياسات رديئة دون حلول جوهرية أو حتى مسكنات وقتية.
فهل تدرك العسكريات العربية أن اللغة والتاريخ والواقع يناضلون في صف الثورة ضد الاستبداد والاستعباد والفشل وان الخطاب الديماجوجي للانقلابات سرعان ما يتكشف عن آلام جمة وضحايا بالجملة وواقع مرير يتحول إلى سخط عام فثورة تزلزل العروش وتعيد الأمور إلي نصابها الصحيح: الحكم للشعب والمدنية للمجتمع والعسكر للثكنات.