لم يعد الأمر ضبابيا بعد! فمن
بغداد إلى
طرابلس عناوين معركة واحدة بدأت حينما تحولت بنادق وفوهات مدافع الجيوش العربية بعد موجة الانتفاضات الشعبية نحو صدور الداخل، وانشغلت بحصد أرواح من يحملون جنسيتها ومن يدفعون مؤونة الجنود من أموال ضرائبهم وأقواتهم.. وبعدما كانت تكتفي الجيوش العربية بانقلابات شكلية في السابق بينما تحافظ على صيغة عداء مع الاستعمار والاحتلال ولو شكليا؛ أصبحت الآن مندمجة بشكل واضح وصريح في حروب تصفية داخلية يتم فيها ذبح مكون شعبي رئيسي تراه الجيوش وممولوها و داعموها عدوا رئيسيا وخطرا وجوديا عليها وعلى استقرارها.
هذا المكون ليس مجرد خصم داخلي فقط تتم المواجهة معه لأسباب سياسية بحته، بل هو نقيض حقيقي لهذه المنظومات وخصم تاريخي لم تهدأ المواجهة معه بأشكالها المختلفة منذ 100 عام.
"الإسلاميون" من جانب على اختلاف درجاتهم.. أو "الإرهابيون" كما يحلو للجانب الآخر وصفهم ووسمهم، والجانب الآخر تصطف فيه الأنظمة القومية والعسكرية والملكية التي أخذت شرعية وجودها من خلال اقتسام تركة الدولة العثمانية التي وزعتها عليهم بريطانيا وفرنسا، ولذلك فشرعية وجودهم مرتبطة دوما بهذه القسمة والحفاظ عليها وذبح أي دعوة لتجاوز هذه المحاصصة الجغرافية، بل تعمل على خلق هويات تشرعن تلك القسمة وترسخها. هذه المواجهة لها أبعاد اقتصادية وسياسية وعسكرية كثيرة، وكانت لها صيغ كثيرة في الماضي لكنها لم تكن صريحة إلى هذا الحد الذي نشهده اليوم.
وهذا الصراع هو أكثر الصراعات تعبيرا عن أزمة المنطقة وعمليات التحديث، فلا يمكن حقيقة إحداث تحديث حقيقي بالمفهوم "الرأسمالي" الغربي دون نزع الهويات المقاومة للتحديث والمزروعة في تاريخ المنطقة ووجدانها بالصيغة التي يطرحها الغرب ووكلاؤه المحليون ممن ورثوا تركة العثمانيين واقتسموها بالوكالة عن الغرب، وبالتالي فلم تكن الصيغة التي طرحتها الشعوب في مواجهة الأنظمة في العقد الثاني من الألفية حيث مواجهة الأنظمة الديكتاتورية "محليا" إلا مرحلة لإخراج الأزمة الحقيقية والصراع الحقيقي من قمقمه، وهي المواجهة الإقليمية الشاملة.
فلا يمكن للخصمين "الدول الملكية والعسكرية والقومية" و"التوجهات العابرة للقوميات والوطنيات (الإسلاميون)" أن يستمرا بالصراع في شكله الروتيني داخل إطار الدولة ومؤسساتها، فقد فشل الطرح الذي نادت به "راند" وغيرها من مؤسسات الغرب بمحاولة الدمج والتدجين لنزعات الهوية المتجاوزة وتسكين الإسلام والإسلاميين داخل الهوية الوطنية، فلم تعد تتسع الهوية الوطنية ولا فسادها لهم و لم يعد الإسلاميون على الجانب الآخر قادرين على التكيف معها كما يجب؛ أمام إلحاح أزمات الأمة من أفغانستان إلى العراق ومركزية فلسطين! وغيرها، على الرغم مما قدمته فصائل كثيرة من الإسلاميين من تنازلات للدخول في تلك اللعبة لتلافي مواجهة أكبر منهم كما يظنون!
ولذلك كلما لاحت في الأفق بشائر اندماج لفصيل من الإسلاميين في الدولة الوطنية سقطت تلك البشائر أمام اختبارات واقعية كثيرة، ولذلك لم يكن هنالك من خيارات كثيرة لبدء مرحلة أكثر صراحة في المواجهة!
الإسلاميون الآن على اختلاف توجهاتهم تُفرض عليهم معركة لن يكون أمامهم هامش كبير للمناورة فيها، وهم أمام أحد أمرين لا ثالث لهما: إما نهايتهم أو تمكين أطروحتهم من الجغرافيا والسياسة.. وكل ذلك لا يمر إلا عبر مواجهة عسكرية مريرة وطويلة وحتمية من بغداد مرورا بدمشق وحتى طرابلس الغرب.. ولاشك في أن هذه المواجهة بعد أن تتجاوز طور الاشتباك مع الجيوش المحلية في سوريا والعراق وليبيا ستتطور للاشتباك الحتمي مع الغرب مباشرة، حيث ستسير جيوش الغرب في بغداد والبصرة مرة أخرى وفي دمشق ودابق وحلب وطرابلس وبنغازي .. وهذه ليست أضغاث أحلام أو سيرا خلف أوهام و إنما قراءة حقيقية لتطور المعركة منذ بدأت، ومتابعة لمنحناها الذي لا يتوقف عن الصعود والتطور فكل يوم يحمل معركة أكبر من سابقته وأوسع نطاقا وأفكارا.
وعلى الإسلاميين في ضوء كل هذه المعطيات أن يدفنوا كل ممارساتهم القديمة وخططهم التي تعاملوا بها مع واقع لم يعد موجودا الآن ولا حلفاء أصبحوا موجودين حاليا.. ولا عن أرض ملعب تهلهلت إلى غير رجعة ولا عن حدود لم تعد تحد أحدا إلا هم فقط! بينما يسرح خصومهم من فوقها ومن تحتها يجوبون المنطقة نحو إنفاذ رؤيتهم كاملة ولو كلفت عشرات الآلاف من الأرواح المهدرة في ملعب الاستعمار الغربي الجديد ووكلائه !