كتاب عربي 21

هل يتبع الظواهري خطى بن لادن؟

1300x600
عقب مقتل أسامة بن لادن زعيم تنظيم القاعدة السابق في الثاني من أيار/ مايو 2011 على يد قوات خاصة أمريكية في أبوت آباد في باكستان، والذي تزامن مع بدء الانتفاضات الشعبية في بلدان عربية عديدة، تعالت أصوات عديدة تبشر بوفاة القاعدة ونهاية إيديولوجيتها العنيفة؛ لسببين رئيسيين، الأول يستند إلى التبشير بحقبة عربية جديدة تقوم على نجاعة التغيير السلمي الشعبي، والثاني يستند إلى الاعتقاد بأن خليفة ابن لادن أيمن الظواهري لا يتوافر على شخصية كاريزمية تستطيع القيام بمهمة القيادة.

 إلا أن الزعيم الجديد لتنظيم القاعدة الظواهري برهن على قدرة كبيرة على قراءة المشهد ومرونة في التعامل مع التحولات، فقد أكد منذ البداية على أن ربيع الديمقراطية سيكون قصيرا نظرا لصلابة الدولة العميقة ورسوخ التبعية وقوة الثورة المضادة التي سوف تتحالف دوليا وإقليميا لمنع تمكين الإسلاميين من السلطة، لخصه الظواهري بعنوان "صنم العجوة الديمقراطي" الذي ستأكله العلمانية الصلبة داخليا وخارجيا إذا جاء على غير أهوائها، وبعد عامين من ربيع لم يكتمل  تم قطع مسارات سلمية الثورات وعسكرتها لاحقا كما حصل في ليبيا وسوريا واليمن بطرائق مختلفة، ودخول مصر نفق الانقلابات العسكرية وتونس بانتظار المجهول. 

عمل الظواهري خلال فترة قصيرة وعصيبة على إعادة بناء تنظيم القاعدة المركزي في باكستان وأفغانستان، كما عمل على توثيق صلاته بفروع التنظيم المنتشرة في أرجاء العالم العربي والإسلامي، فقد أدرك منذ بداية "الانتفاضات" العربية التغيرات الموضوعية والفائدة الحيوية للتحولات التي يمكن استثمارها من خلال تأييدها وإسنادها والمشاركة في حراكاتها فرايات القاعدة "السوداء" أصبحت لاحقا جزءا من المشهد العربي العام.

 بحسب الظواهري فإن مناوشة العدو "القريب" والصراع مع العدو "البعيد" التي اتبعها تنظيم القاعدة هي التي مهدت الطريق لـقيام "الثورات" العربية، وبغض النظر عن دعوى الظواهري فالأمر المؤكد أن القاعدة استثمرت التحولات الميدانية العميقة التي أسفرت عن زوال بعض الأنظمة "السلطوية" "عدوها القريب"، كما أضعفت منظومة الهيمنة الأمريكية "عدوها البعيد".

 أحد ابتكارات تنظيم القاعدة في عصر الظواهري تمثلت بظاهرة "أنصار الشريعة"، فقد أتاح الدخول في أفق اللعبة "الديمقراطية"  التعددية فرص انتشار التنظيم عبر الانتقال من "النخبوية" إلى "الشعبوية"، عبر تعميم "أنصار الشريعة" وهي ديناميكية جديدة في الفضاء السلفي الجهادي تعيد طرح استراتيجيات التغيير إلى سيرتها الأولى خلال حقبة الثمانينيات وآليات التعامل مع الأنظمة المحلية الموسومة بـ "العدو القريب" قبل أن تتبلور "الجبهة العالمية لقتال اليهود والصليبيين" نهاية التسعينيات 1998 وفق نظرية أولوية التصدي لـ "العدو البعيد"، بين الحقبتين وما بعدها لم ينقطع الجدل حول أولوية الدعوي والقتالي أو المزاوجة بينهما، التطور الجديد يلغي المسافات ويقطع الخلافات التاريخية ويدشن لمرحلة تتكشف ببطء ولكن بثبات.

 القاعدة في عصر الظواهري كتنظيم مركزي نخبوي مسلح بأجندة معولمة يوشك على الزوال، لتحل مكانه استراتيجية تقوم على دعامتين الأولى: بناء شبكات  شعبوية محلية تحت مسمى "أنصار الشريعة" تمهد لبناء منظومة إقليمية متحدة تتبنى آلية سلمية محلية وتناهض الهيمنة الغربية، وتشكل خزانا لجلب أعضاء جدد  لتنظيم القاعدة في ظل "عصبة الديمقراطيات" المشوهة هيكليا، والثانية: المزاوجة بين قتال العدو القريب والبعيد من خلال "دمج البعد القاعدي"  العولمي والمحلي.

عقب مرور أكثر من ثلاث أعوام على "الربيع العربي" ومقتل زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن باتت استراتيجية القاعدة الجديدة  مع الظواهري أشد وضوحا وأكثر خطورة، فقد أسفرت الثورات العربية عن انهيار بعض الأنظمة السلطوية وإضعاف أخرى معادية للسلفية الجهادية والقاعدة، وساهم غياب ابن لادن بتفكك القيادة المركزية والتخطيط العملياتي المعولم وبروز نهج جديد للقاعدة يناهض الغرب والولايات المتحدة بطرائق غير مباشرة عبر مجاميع وشبكات جهادية  إقليمية أعادت تمركزها في المنطقة العربية.

لقد طوّر الظواهري استراتيجية تنظيم القاعدة وباتت تعتمد على دمج البعدين العالمي والمحلي، وهي ظاهرة جديدة تميّز الولادة الثالثة لتنظيم القاعدة وفضائه الإيديولوجي السلفي الجهادي الواسع والتي تعتبر سوريا مختبره الأساس؛ إذ تميّزت الولادة الأولى بقتال العدو القريب المحلي وهي استراتيجية ولدت من رحم أفغانستان، وتميّزت الولادة الثانية بقتال العدو البعيد العالمي، وكانت العراق ميدان اختباره الأهم.

 لعل الاختبار الأصعب الذي برهن الظواهري من خلاله على قدرته على خلافة ابن لادن وتتبع خطاه جاء عبر قراراته الحازمة في التعامل مع تمرد جماعة الدولة "الإسلامية" في العراق والشام على تنظيم القاعدة المركزي، فعقب إعلان أبو بكر البغدادي أمير "الدولة الإسلامية في العراق" في التاسع نيسان/ إبريل 2013 عن ضم "جبهة النصرة" في سوريا إلى دولته لتصبح "الدولة الإسلامية في العراق والشام"، وإعلان زعيم "جبهة النصرة" أبو محمد الجولاني صبيحة اليوم التالي مبايعة الظواهري ورفض الامتثال لإعلان الدمج والانضمام لـ "لدولة"، أصدر الظواهري قراره القاضي بتحديد الولاية المكانية للفرعين في 9 حزيران/ يونيو 2013، وفصل ببطلان الدمج وحل "دولة العراق والشام الإسلامية" مع بقاء "جبهة النصرة" و"دولة العراق الإسلامية"
كفرعين منفصلين يتبعان تنظيم القاعدة. 

عندما أصر الفرع العراقي للقاعدة على التمرد وعدم الامتثال، اتخذ الظواهري قرارا حاسما بفصل "داعش" وقطع صلتها بتنظيم القاعدة من خلال بيان صدر في 2 شباط/فبراير، قالت فيه: "إن الدولة الإسلامية في العراق والشام ليست فرعاً من جماعة "قاعدة الجهاد"، وليست لنا أية علاقة مؤسسية معها، كما أن "التنظيم" ليس مسؤولاً عن أعمالها. 

كان قرار الظواهري حاسما وصادما الأمر الذي حمل الناطق باسم تنظيم الدولة أبو محمد العدناني على اتهام الظواهري بالانحراف عن نهج القاعدة في رسالة صوتية صدرت بتاريخ 18 نيسان/ إبريل 2014 بعنوان "ما كان هذا منهجنا ولن يكون"، قال فيها إن:"   تنظيم القاعدة اليوم لم يعد قاعدة الجهاد فليست بقاعدة الجهاد من يمدحها الأراذل ويغازلها الطغاة ويناغيها المنحرفون والضالون.. ليست قاعدة الجهاد من يتخندق في صفها الصحوات والعلمانيون.. إن القاعدة اليوم باتت قيادتها معول لهدم الدولة الإسلامية والخلافة القادمة."

في اليوم التالي  لكلمة العدناني بتاريخ 19 نيسان/ إبريل نشرت مؤسسة السحاب الإعلامية التابعة لتنظيم القاعدة المركزي لقاءا صوتيا مع الظواهري أكد فيه على التبرؤ من الفرع العراقي وتحميله مسؤولية الاقتتال بين الفصائل الجهادية في سوريا وانحرافه عن نهج القاعدة، وأكد الظواهري على أن: "القاعدة رسالة قبل أن تكون تنظيما .. فإذا شوهنا هذه الرسالة فقد خسرنا حتى لو كنا نتمدد تنظيميا وماديا"، ونبه إلى انحراف الفرع العراقي بقوله: "إننا نقدم لأعدائنا أكبر فرصة لتشويه سمعتنا وفصل الأمة عنا".

الظواهري شدد على الالتزام بنهج القاعدة واتباع خطى ابن لادن من خلال التذكير بأن أجندة القاعدة تهدف منذ الإعلان عن تأسيس "الجبهة الإسلامية العالمية لقتال اليهود والصليبيين" عام 1998إلى قتال الغرب عموما والولايات المتحدة خصوصا باعتبارها حامية للأنظمة العربية الاستبدادية، وراعية لحليفتها الاستراتيجية إسرائيل المغتصبة لفلسطين من جهة، والسعي لتطبيق الشريعة وإقامة الخلافة من جهة أخرى، فمواجهة الغرب ورفع الهيمنة الخارجية، والتصدي للاستبداد وتمكين الشريعة داخليا هما ركنا تنظيم القاعدة الأساسيين، وبحسب الظواهري هناك اختلاف في المنهج بين القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية، فمنهج القاعدة هو "التركيز على أميركا وحلفائها الصليبيين والصهاينة وعملائهم، وترك المعارك الجانبية وتجنب العمليات التي قد تسفك فيها دماء بغير حق في الأسواق والمساجد والأحياء السكنية وبين الجماعات المجاهدة". 

يبدو أن الظواهري قد نجح في تتبع خطى ابن لادن فقد أصدر في أيلول/ سبتمير 2013 بيانا يعتبر دليلا ومنهاجا لعمل تنظيم القاعدة بعنوان "توجيهات عامة للعمل الجهادي"، وهو عنوان لافت يتتبع فيه والوصايا المنهاجية لابن لادن، والتي صدرت بعنوان "توجيهات منهجية"، مشددا على ثبات وصواب ونجاعة نهجه، ومؤكدا على أن: "العمل العسكري للقاعدة يستهدف أولا رأس الكفر العالمي أمريكا وحليفتها إسرائيل، وثانيًا حلفائها المحليين الحاكمين لبلادنا"، ويشدد على: "عدم مقاتلة الفرق المنحرفة مثل الروافض والإسماعيلية والقاديانية والصوفية المنحرفة ما لم تقاتل أهل السنة، وإذا قاتلتهم فيقتصر الرد على الجهات المقاتلة منها، مع بيان أننا ندافع عن أنفسنا".

خلاصة الأمر أن الظواهري لا يزال يتتبع خطى ابن لادن، فقد تمكن من اجتياز أحد أصعب الاختبارات بالتخلي عن تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام"، وتمكن من كسب فرعا له في بلاد الشام ممثلا بـ "جبهة النصرة"، وهو بانتظار جوائز عديدة في مناطق أخرى في محيط عربي غير مستقر.
الأكثر قراءة اليوم
الأكثر قراءة في أسبوع