ظل
الرأي العام السوداني طوال الأسبوع الماضي في حالة ترقب وانتظار (للمفأجاة) التي سيفجرها رئيس الجمهورية ورئيس حزب المؤتمر الوطني عبر خطاب يوجهه لكافة السودانيين يكشف فيه النقاب عن مبادرة يطرحها حزبه لحوار وطني شامل يحدث سلاماً واستقراراً وحكما ديمقراطيا راشداً، وظلت التسريبات والتكهنات الإعلامية ترفع سقف التوقعات من يوم ليوم حتى بات الجميع في لهفة لسماع ذلك الخطاب المرتقب المتفائلون توقعوا فيه مشروعاً وطنياً جامعاً قابلاً للحوار والاتفاق بينما كان المتشائمون على قناعة -من
واقع تجارب سابقة- بأنه لا جديد تحت الشمس وأنهم لن يسمعوا إلا تكراراً ووعوداً لا سبيل لتحقيقها.
ومساء الاثنين الماضي كان الجميع –المتفائلون والمتشائمون– على موعد مع ذلك الخطاب المرتقب الذي أعد له جمع حاشد ووجهت الدعوة لقادة أحزاب المعارضة فكان فيهم من استعصم بالرفض ومنهم من لبى الدعوة والحدث الأكبر أنه كان في طليعة من لبوها الدكتور حسن الترابي عراب الإنقاذ ومهندس انقلابها الذي انقلب عليه حواريوه وتلاميذه وأطاحوا به من كابينة القيادة قبل عقد ونصف العقد من الزمان مرت خلالها مياه كثيرة تحت الجسر ولكنه ظل صامداً في معارضته لمن أطاحوا به فقرأ الحاضرون في حضوره هذا اللقاء العلني لأول مرة منذ خمسة عشر عاماً مع أولئك الذين أطاحوا به إشارة إلى (تفاهمات) من وراء الكواليس لأن الدكتور الذي يعرفون ما كان ليلبي الدعوة لو لم تكن جزءاً من مشروع أكبر إن لم تكن صفقه سياسية ثنائية كاملة الدسم.
أما الذين كانوا أكثر تفاؤلا فتوقعوا صفقة أكثر شمولاً تضم بجانب الدكتور الترابي وحزبه الإمام الصادق المهدي وحزب الأمة القومي، لكن الخطاب المرتقب أحبط المتفائلين وأدهش المتشائمين؛ إذ وجدوا أنفسهم أمام خطاب يتحدث كثيراً ولا يقول شيئاً فقد تمت صياغة الخطاب بأسلوب اتسم بالغموض وأمعن في العموميات والتنظير وتفادى التعامل مع واقع الأزمات والتحديات ولم يفصح عن آليات مقترحة ولا عن أي إجراءات أو ترتيبات لتهيئة الأجواء لمثل الحوار المقترح.
ورغم أن قيادات حزبي المعارضة (الشعبي والأمة) أحست بخيبة أمل بعد هذا الخطاب الغامض المبهم الذي تحدث كثيراً ولكنه لم يقل شيئا فإنهما آثرا ألا يصعدا الحديث عن خيبة الأمل مؤكدين التزامهما بالحوار الجامع متى ما توفرت ظروفه، ومن جانبه أقر المؤتمر الوطني أن الخطاب لم يكن موفقاً في صياغته ولا واضحاً في طرحه ولا معالجاً للقضايا بكامل أبعادها وعزوا ذلك للاستعجال نتيجة لارتفاع وتيرة التكهنات بمضمون وأبعاد التغيير المرتقب، واعتبر الخطاب مجرد مقدمة ولذلك تقرر أن يقدم الرئيس البشير خطابا آخر بعد عودته من أديس أبابا يكون أكثر وضوحاً يعالج الأزمات والتحديات بصورة مباشره ويطرح مقترح الحوار بصورة أكثر تحديداً.
لقد أدى الإحباط من الخطاب الأول إلى نظرة سالبة تجاه مشروع الحوار وسيحتاج الرئيس البشير إلى أكثر من شرح ما سبق تقديمه حتى يسترد مشروع الحوار مصداقيته وذلك بإعلان خطوات إجرائية تهدف لتهيئة الأجواء للحوار إذا كان الحزب الحاكم جاداً في طرحه ويأتي في مقدمة الإجراءات المطلوبة لتهيئة المناخ لحوار قاصد وراشد البدء في رفع القيود التي تحاصر الآن حرية التعبير وحرية التنظيم وحرية الحراك والنشاط السياسي بحيث تحدث انفراجة حقيقية في الوضع السياسي ولا بد أن يتضمن الخطاب إشارات واضحة لإحداث مصالحة وطنية وتعافٍ وطني وعدالة انتقالية تكون جزءا من أجندة الحوار، وأن يحفز حملة السلاح بإعلان عن استعداد الحكومة لإنفاذ وقف العدائيات طوال فترة الحوار توفيراً للأجواء المناسبة لإشراك حملة السلاح في الحوار واعتماد الحوار مدخلا أساسياً لتحقيق السلام عوضا عن البندقية.
وإذا كانت هناك رغبة حقيقية في حوار جاد فلا بد من إقناع الجميع بأنها ليست رغبة هلامية وإنما هي رغبة صادقة تستند على إجراءات عملية تثبت مصداقيتها بعد أن اهتزت تلك المصداقيه كثيراً بسبب الإحباط الذي أحدثه الخطاب الأخير، ويجب أن يكون الطرح مباشراً يخاطب كل القوى السياسية وعامة الناس على قدم المساواة دون أن يركز على جهة بعينها حتى ينفي تهمة الصفقه الثنائية أو الثلاثية لأن الهدف هو الوصول إلى الحد الأدنى المشترك بين كل أهل السودان وأنه لا يستثني أحداً فذلك هو السبيل الوحيد للوصول إلى مشروع وطني قومي يصنعه السودانيون بأنفسهم ويتطلعون إلى دعم إقليمي ودولي لذلك المشروع لا ليرفع عنهم الحظر فحسب بل يدعم اقتصادهم ماديا ليتعافى من محنته.
(العرب القطرية)