يستحوذ مصطلح "النخبة" على ميراث سيء السمعة في الذاكرة المجتمعية المصرية وبالأخص في السنوات القليلة الماضية؛ حيث حاز على أسوأ دلالات في تاريخه. فقد التصقت به معاني "النفاق - الجشع - الجبن - اللعب على الحبال - مداهنة السلطة - ركوب الموجة - التنظير في الفراغ"، وغيرها من صفات أصبحت معاني تدل على مصطلح النخبة وتلتصق به. وكانت الدعاية الاعلامية بالإضافة لذلك تزيد من صقل هذه الدلالات وترويجها لدى رجل الشارع، وانتهى ذلك لفصل حقيقي بين المجتمع ونخبته، ثم كانت النتيجة احتكار السلطة للنخبة وتوظيفها في معاركها.
والنخبة في مصر معلقة في الهواء، فهي لا تمتلك أرضا تستند عليها، كما أن سقوطها رهن بيد السلطة التي تشدها لأعلى عبر حبل معلق يعبر عن تلاقي مصالح، ولايمكن للنخب المصرية أن تتحول لحالة مرئية وبارزة عبر الاجتهاد "العقلي" والفكري؛ فهذا قليل جدا وغير متاح... فكم من الكوادر الكبرى في مصر ذات الكفاءات الحقيقية التي تؤهلها لتصبح نخبا حقيقية وهي في ذات الوقت مدفونة رغما عنها،إذ أن الطريق الوحيد للظهور كفرد من أفراد النخبة المصرية هو "الاصطفاء" والاختيار من قبل السلطة لتكون ذلك الشخص، إما عبر السماح لك بالظهور والإعلان عن نفسك في برامج الإعلام التلفزيوني الذي تتحكم في مداخله دولة الأمن والاستخبارات، وإما عن طريق دور النشر الحكومية وجرائدها، وما دون ذلك ستقع في حرب شديدة مع السلطة ستنتهي بتهميشك مالم تمتلك تيارا قويا يقف خلفك.
أما بالنسبة للإسلاميين فالأمر مختلف قليلا، فالإسلاميون برغم كونهم جزءا كبيرا من المجتمع إلا أنهم يختلفون في التعاطي مع نخبهم، إذ أن حالة النخبة في الداخل الإسلامي غالبا ما تكون حالة حقيقية وذات تأثير وفاعلية كبيرين، فحالة العلماء والمشايخ والمفكرين الإسلاميين والدعاة والقادة السياسيين هذه الحالة تلقى قبولا كبيرا داخل الإسلاميين ولا ينظر لها ذات النظرة التي ينظرها بقية المجتمع لنخبهم، بل ويلقى خطابها رواجا كبيرا في بيئتها الإسلامية. وتشترك كذلك النخب الإسلامية مع قواعدها في "الابتلاء" بالسلطة ومواجهتها في الغالب، وتكون ضحية للاضطهاد والتهميش مما يعمق لدى القواعد قدسية وطهورية هذه النخبة والتصاقها بها .
وعليه لا يجب ان نستسلم للدعاية السيئة التي يروجها النظام عن فكرة "النخبة"، إذ أن وجود النخبة ضروري جدا في عملية التكوين المجتمعي وفي حالات التدافع والصراع. ولو تناولنا الإخوان كمثال على الاسلامييين، فإنهم في حالات ترهل التنظيم أو تلقيه ضربة أو عدم قدرته على توليد أفكار واضحة للصراع إنما يستقون الصورة الاكبر للصراع من النخب القريبة منهم، ويبحثون في ثنايا طرحها عن تفسير. وما ينطبق على الإخوان ينطبق على بقية حالات العمل الاسلامي، فهي ليست بعيدة عن نخبتها ولذلك يجب أن لا تستقيل النخب الاسلامية من مهمتها الحالية وأن لا يتحول رموزها لأدوار هي ليست من تخصصهم؛ فلا هم أصابوا منها موقعا ولاهم سدوا ثغرهم .
إن صناعة النخبة السياسية والفكرية والشرعية والحركية هو الضامن الوحيد لاستمرار الحركة الاسلامية بعد موجات الضرب الأمني واستنزاف المعارك. إن أبا بكر الصديق جمع القرآن بعد مقتل كثير من النخب القرآنية في المعارك لاستشعاره الخطر، وإن التجريف الذي يحدث الآن والذي حدث بفعل انغماس الحركات الإسلامية في الفعل ورد الفعل في السنوات العشر الماضية جرف الحالة الاسلامية من وجود نماذج نوعية تستطيع ضبط إيقاع الحركة وإيجاد العناوين الصحيحة والسليمة لها، ومواجهة التحديات التي هي أكبر من كونها ميدانية أو تكتيكية .
ولذلك، يجب أن تكون هناك برامج أكاديمية وعلمية وشرعية وتدريبية لصقل خبرات جزء كبير من الحالة الشبابية الإسلامية، وعدم الاعتماد على التنظيمات في تخريج حالة نخبوية إسلامية، وإنما السعي الحثيث لإيجاد هذه الحالة خارج الأطر الضيقة، بحيث نستطيع تعميق الحالة الإسلامية العامة في بيئة التدافع الثقافي والمعرفي والاجتماعي القادم، فالنخبة في الحالة الإسلامية ليست معزولة عن شبابها ولابعيدة عن حراكها، وإنما ما نحتاجه هو صقل نخب جديدة وتوسيع هذه الحالة وتعميق نظرتها وفكرها .. والله من وراء القصد.