صحافة دولية

كيف تتطور علاقات روسيا مع السلطات السورية الجديدة؟

حراك دبلوماسي بين روسيا وسوريا توجت أخيرا بزيارة الشرع لموسكو- سانا
تناول تقرير لصحيفة  "بروفيل" الروسية، تحول السياسة الخارجية السورية بعد 2024 نحو نموذج مرن متعدد الشركاء يوازن بين الأمن والاقتصاد والشرعية الدولية، مع إعادة تعريف العلاقة مع روسيا على أساس شراكة براغماتية محدودة.

وقالت الصحيفة، في تقريرها الذي ترجمته "عربي21"، إن  السياسة الخارجية لأي دولة تعتمد بشكل مباشر على حالتها الداخلية، ويبرز ذلك بوضوح في سوريا، وتضيف الصحيفة أن سوريا تمتلك موارد محدودة لإعادة الإعمار، مما يجعلها في حاجة إلى مصادر خارجية للتمويل والتقنيات والدعم الأمني، ويحاول قادة دمشق اليوم معالجة المشاكل الهيكلية للبلاد من خلال إشراك تركيا وقطر ودول الخليج وروسيا، إلى جانب الولايات المتحدة والمنظمات الدولية.

وفي حال تميزت حقبة بشار الأسد بالتحالفات العسكرية والانعزال الخارجي، فإن الوضع مختلف مع أحمد الشرع، الذي يسعى إلى بناء شبكة شراكات متوازنة، وفي هذا الإطار، تتسم العلاقات بين موسكو ودمشق بنوعية جديدة؛ فروسيا تحافظ على حضورها الإستراتيجي ودورها السياسي، لكنها لم تعد الضامن الرئيسي للاستقرار، وتسعى دمشق أيضًا إلى تنويع علاقاتها، مستفيدة من مصالح أنقرة والدوحة ودول الخليج لدعم إعادة الإعمار الاقتصادي وتحقيق الشرعية السياسية للزعيم الجديد.

وذكرت الصحيفة أن التغييرات التي عاشتها سوريا سنة 2024 تعد واحدة من أبرز الأحداث السياسية في الشرق الأوسط خلال العقد الأخير، وقد شكل ذلك تحديًا بالنسبة لروسيا التي اعتبرت سوريا لأكثر من عشر سنوات عنصرًا أساسيًا في إستراتيجيتها في المنطقة، بيد أن تغير النظام السياسي والمزاج العام فرض إعادة النظر في شكل مشاركة موسكو في الشؤون السورية.

التوازن بدلاً من التبعية
وأوضحت الصحيفة أن دمشق لم تعد تعتبر موسكو راعيًا رئيسيًا لها، وقد أوضح وزير الخارجية السوري، أسعد الشيباني، هذه الرؤية بوضوح خلال زيارته لموسكو في الأول من آب/ أغسطس، قائلًا: "نحن نقدر دعم روسيا، لكننا نرى علاقات بلدينا كشراكة متكافئة، وليست علاقة تبعية"، من جانبها، تحافظ روسيا على وجودها الإستراتيجي في سوريا من خلال قواعدها العسكرية، وتستمر في الإسهام بالحفاظ على الاستقرار الإقليمي، لكنها تتجنب الالتزامات الاقتصادية الكبيرة أو التدخل المباشر في الإصلاحات الداخلية للبلاد.

وتمثل روسيا اليوم بالنسبة لسوريا مجرد شريك مهم شأنها شأن تركيا وقطر والولايات المتحدة ودول الخليج والاتحاد الأوروبي. وعلى عكس عهد بشار الأسد، الذي كانت فيه العلاقات الدولية لدمشق تقوم على مبدأ التبعية العسكرية، تتسم الأنشطة الخارجية لأحمد الشرع بطابع اقتصادي وسياسي: فكل لقاء يمثل فرصة لتحقيق مصالح محددة وضمانات ملموسة. وبحلول ربيع 2025، أعادت سوريا علاقاتها مع الأردن ومصر ودول الخليج، وجزئيًا مع الولايات المتحدة، مستعيدةً بذلك صيغة المفاوضات على أعلى المستويات.

وفي أيلول/ سبتمبر الماضي، على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، التقى الشرع بالأمين العام للمنظمة، أنطونيو غوتيريش، وأعضاء عدة حكومات أوروبية، ليقدم سوريا لأول مرة منذ عقد من الزمن كدولة تجري إصلاحات، لا كمصدر للتهديدات.

توازن متعدد المستويات
ويسعى الشرع إلى تشكيل بنية جديدة للسياسة الخارجية السورية تعتمد على توازن متعدد المستويات بين أربعة محاور أساسية: الأمن (روسيا وتركيا) والاقتصاد (قطر ودول الخليج) والشرعية السياسية (الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي) والعلاقات الإنسانية والمؤسسية (الأمم المتحدة والمنظمات الإقليمية)، ومن خلال هذا المزيج، يهدف الشرع إلى تعزيز الاستقرار الداخلي وتأمين الموارد اللازمة لدعم نظامه.

وتشير الصحيفة إلى أن القمة المنعقدة بين فلاديمير بوتين وأحمد الشرع في الكرملين بتاريخ 15 تشرين الأول/أكتوبر شهدت انتقال العلاقات الثنائية إلى مرحلة جديدة من الشراكة البراغماتية الخالية من الأوهام، وبالنسبة لروسيا، لم تعد سوريا منطقة مسؤولية، بل أصبحت ساحة للحضور العسكري والسياسي، حيث تحولت قاعدة حميميم وميناء طرطوس إلى أدوات للمشاركة في الشؤون الإقليمية لا رموزًا للرعاية المباشرة. أما بالنسبة لدمشق، فقد أتاح هذا الاتفاق الحفاظ على الضمانات الأمنية الروسية دون التضحية بحرية الحركة في مجالات أخرى.

وبعد اللقاء الذي جمع الشرع برجب طيب أردوغان في شباط/فبراير الماضي، حلّت تركيا محل الدور التقليدي للراعي الرئيسي لسوريا، وشرعت الدولتان في إنشاء هياكل مشتركة تتولى عملية إعادة إعمار المناطق الشِّمالية من سوريا، وتشمل مبادرة "الممر الشمالي" إقامة مناطق صناعية ومراكز لوجستية تربط المحافظات السورية بالاقتصاد التركي.

الدوحة أكبر مستثمر عربي في سوريا
وتشهد العلاقات بين دمشق والدوحة أيضًا تطورًا نشطًا، ويشارك صندوق قطر للتنمية وبنك قطر الوطني في إعادة تأهيل مشاريع المياه والطاقة، فضلًا عن تصميم مجمعات زراعية وصناعية جديدة في سوريا، ووفقًا لتقارير لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا ومصادر تحليلية إقليمية، يبلغ إجمالي الاستثمارات القطرية في سوريا بين عامي 2023و2025 نحو مليار دولار، ما يجعل الدوحة أكبر مستثمر عربي في البلاد.

وتعتبر قطر هذا التقارب وسيلة لتعزيز نفوذها في بلاد الشام، بينما تأمل دمشق في أن يقدم المستثمرون القطريون التمويل دون فرض شروط سياسية كبيرة، وبهذا نشأ محور جديد يجمع أنقرة والدوحة ودمشق، حيث تلعب سوريا دور الحلقة الوسيطة بين الخليج الشرقي وشرق البحر المتوسط.

وبينت الصحيفة أنه في أيار/مايو، التقى الشرع بالرئيس الأمريكي دونالد ترامب في الرياض، ثم أجرى في تشرين الثاني/نوفمبر زيارة رسمية إلى واشنطن، وركزت المباحثات على رفع جزئي للعقوبات وبرامج إنسانية وإعادة سوريا إلى المشاركة في التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب.

استقرار يهدف تقليل النفوذ الإيراني
ومن خلال هذه التحركات تسعى الولايات المتحدة إلى تحقيق استقرار محسوب في المنطقة، بهدف تقليل النفوذ الإيراني واحتواء أي تمدد مفرط للنفوذ التركي، أما بالنسبة لسوريا، فتتيح هذه اللقاءات فرصة لإعادة تأهيل موقفها السياسي تدريجيًا وتطبيع علاقاتها مع الغرب.

وبحسب الصحيفة، في حال كانت روسيا والولايات المتحدة تمثلان الضامنيْن الإستراتيجييْن والموجهيْن السياسييْن، فإن أنقرة والدوحة يضطلعان بدور المهندسيْن الفعلييْن لإعادة الإعمار الاقتصادي والبنية التحتية في البلاد، فهما يقدمان ما لا تستطيع موسكو أو واشنطن تقديمه كاستثمارات سريعة ودعمًا لوجستيًا وآليات مرنة للوساطة في العالم العربي والإسلامي.

ويشير التوجه الجديد للسياسة الخارجية السورية إلى أن أشكال الوجود التقليدية لروسيا، ولا سيما المشاريع العسكرية واللوجستية ومشاريع الموارد الطبيعية، فقدت جزءًا كبيرًا من أهميتها، ففي منتصف سنة 2025، تم تعليق ومراجعة عدد من الاتفاقيات الموقعة بين 2016 و2021، بما في ذلك عقود إدارة ميناء طرطوس واستغلال الفوسفات في منطقة تدمر، بدورها، أكدت موسكو استعدادها لفتح فصل جديد في تاريخ العلاقات الثنائية. ومع ذلك، ينظر الرأي العام السوري إلى هذه الإشارات بحذر، إذ لا يزال يتذكر الدور الذي لعبته روسيا في دعم نظام بشار الأسد حتى وقت قريب.

تخلص روسيا من لقب "راعية الأسد"
واضطرت موسكو في هذا السياق إلى إعادة ضبط نهجها تجاه سوريا، وعلى عكس ليبيا، حيث راهنت روسيا على  خليفة حفتر، تتجنب موسكو منذ سنة 2024 تقديم دعم شخصي لأي من رموز النظام السابق في دمشق، كما تدرك القيادة الروسية أهمية التخلص من لقب "راعية الأسد"، لذا يتركز العمل على بناء نقاط ثقة جديدة من خلال المساعدات الاقتصادية والأنشطة الإعلامية والتعليم والتعاون الإنساني.

وأردفت الصحيفة أن هذه التحولات مجتمعة ستساهم في بلورة نوع جديد من العلاقات الروسية السورية، حيث يمكن وصفها بـ"الشراكة البراغماتية المحدودة"، بالنسبة لموسكو، يعني ذلك الحفاظ على مستوى نفوذ يكفي لتحقيق مصالحها الأساسية، بينما تمنح سوريا نفسها القدرة على الاستفادة من الموارد الروسية كأداة لتحقيق التوازن في سياساتها الخارجية، دون الانغماس في تبعية كاملة لموسكو.

وعلى المدى القريب، يبدو السيناريو الأكثر ترجيحًا هو الانتقال نحو شراكة مؤسسية، وهو ما يتوقف على عاملين رئيسيين: قدرة روسيا على استعادة الثقة من خلال القنوات الإنسانية والتعليمية  واستعداد الإدارة السورية الجديدة للاعتراف بموسكو كشريك متساوٍ في جهود إعادة الإعمار وتنمية البلاد.

وبشكل عام، يتطلب تعزيز العلاقات الروسية السورية ثلاث خطوات إستراتيجية رئيسية تتمثل في تحديث الإطار القانوني والاتفاقي لضمان الشفافية والشرعية المتبادلة لوجود روسيا في سوريا، وتوسيع مسارات الدبلوماسية المجتمعية، من ثم دمج روسيا في المبادرات الإقليمية لإعادة إعمار سوريا، بالتعاون مع دول الخليج والهيئات الإنسانية الدولية.

وفي ختام التقرير، نوهت الصحيفة بأن نجاح السياسة الروسية الحديثة في سوريا يعتمد ليس فقط على حجم التواجد العسكري أو البِنَى التحتية، بل على القدرة في تقديم فوائد ملموسة للبلاد سواء على الصعيد التكنولوجي أو التعليمي أو الاجتماعي.