وتشتد الحاجة إلى السياسة اللغوية، أي إلى تدخل الدولة، كلما كانت اللغة في موقف دفاع، فقد كان الخوف من الغزو اللغوي الإنكليزي هو الذي أوجب إصدار قانون توبون لحماية الفرنسية عام 1994. ولكن الوضع اليوم أخطر بكثير، حيث إن 4 في المئة فقط من وثائق الاتحاد الأوروبي في بروكسل تحرر في الأصل بالفرنسية.
لا تجري علاقة الأمم بلغاتها وثقافاتها مجرى واحدا، بل إن ثمة اختلافات متعددة المظاهر، لعل أبرزها الموقف الذي تتخذه الدولة من لغة البلاد متعيّنا في ما يسمى بـ"السياسة اللغوية". وهذا هو مصداق قول حنا أرندت؛ إننا كلما فكرنا في اللغة تفكيرا جادا فإننا نخوض في السياسة. ويمكن تصنيف الأمم في هذا الشأن أصنافا ثلاثة. أولا، الأمم التي يكاد يتلاشى الشأن اللغوي عندها في غيابة الّلا-مفكّر فيه، فهي راضية عن نفسها هانئة بوضعها، ولا ترى السلطات العامة فيها أي مسوغ للتدخل في الحياة اللغوية لا حماية ولا دعما ولا توجيها ولا تقويما. ولعل
بريطانيا والولايات المتحدة هما أبرز مثال على هذا الموقف، بل اللا-موقف، المتمثل في انعدام السياسة اللغوية.
ويصدر هذا اللا-موقف عن عاملين: أحدهما هو اطمئنان الأمتين إلى هيمنة الإنكليزية على معظم قطاعات الإنتاج العلمي والتقني والاقتصادي في العالم أجمع، بما يغني عن بذل أي جهد لتدعيم اللغة في الداخل والعمل على انتشارها وإشعاعها في الخارج. أما العامل الثاني فتاريخي، وهو ميراث الامتناع الحكومي (المستمر منذ أكثر من قرنين) عن الاستثمار في المؤسسات الثقافية والأكاديمية بإيكال الأمر كله إلى القطاع الخاص.
ومن تجليات هذه اللامبالاة، أن وزارة الثقافة عديمة الأهمية في بريطانيا، فهي تأتي في آخر التراتبية الحكومية، وغالبا ما يكون وزير الثقافة نكرة لدى الجمهور. بل إن قدر هذه الوزارة أن يتوزع دمها بين القبائل، ولذلك فهي تسمى وزارة الثقافة والإعلام والرياضة (قبل أن يضاف للإعلام التواصل الرقمي). وقد سبق لمعلق ثاقب النظر أن نبه إلى أن الأهمية الحقيقية للمجالات هي في علاقة تناسب عكسي مع التسمية الرسمية: فالمجال الأهم الذي يحظى بالسيادة هو الرياضة، ثم يأتي الإعلام لأنه الوسيلة الأقوى للتأثير السياسي والانتخابي، وفي الأخير تأتي الثقافة بنتا من بنات العمومة الأباعد، فقيرة كسيرة لا تدعى إلى المناسبات العائلية إلا على مضض.
ومن المظاهر الأخرى لهذه اللامبالاة، أن مستوى اللغة الإنكليزية التي يتحدثها الرؤساء الأمريكيون ورؤساء الحكومات البريطانيون، هي أقرب إلى العامية منها إلى الفصاحة، وإذا أردت مثلا على رقي اللغة، فلا بد لك من العودة إلى كندي وروزفلت، وإلى هارولد ماكميلان وتشرشل.
الصنف الثاني يشمل الأمم التي تبدو كما لو أنها في خصومة مع لغتها، فدولها مكتفية بفتح المدارس، وإعلامها، خصوصا التلفزيوني والإلكتروني، يسعى في خراب اللغة سعيا حثيثا من حيث لا يدري. أما الحكام، فمعظمهم متخصص في ارتكاب الأخطاء اللغوية الفاضحة المخجلة المخزية، التي يترفع عنها النجباء من تلاميذ المدارس الابتدائية. ولكن الحكام لا يخجلون لأنهم لا يدركون، وليس ثمة بين أفراد الحاشية من يكترث لتنبيههم أن إتقان اللغة الأم في الخطب العامة والتصريحات الرسمية، هو الدرجة الصفر من شروط الاحترام للذات، ومن مقومات المصداقية السياسية. ولا شك أن دولنا المكتفية برتابة الاحتفال الشكلي، كل 18كانون الأول/ ديسمبر، باليوم العالمي للغة العربية، هي المثال الأبرز على استفحال هذه الرداءة التي بلغت حد التلعثم والتعثر في آيات قرآنية معروفة، يحفظها حتى الأميون من أفراد الأمة.
أما الصنف الأخير، فيشمل الأمم التي تقدّر لغاتها وتمضي في الاحتفاء بها إلى حد يقرب من التقديس. ولا شك أن المثال الأبرز هو
فرنسا التي يزخر تاريخها بآيات باهرة من الاحتفاء باللغة الوطنية. أما أحدث مظاهر هذا الاحتفاء، فقد تمثل أواخر تشرين الأول/ أكتوبر، في تدشين المدينة الدولية للغة الفرنسية في بلدة فيللر-كوتيري. ذلك أنها البلدة التي شهدت إصدار الملك فرانسوا الأول عام 1539 المرسوم الذي جعل الفرنسية اللغة الإدارية للبلاد، تماما كما فعل عبد الملك بن مروان عندما قرر تعريب الديوان. وبهذا، تم توحيد فرنسا لغويا وإنهاء الهيمنة النخبوية للغة اللاتينية، والبلبلة الناجمة عن كثرة اللغات الجهوية (المناطقية). كما تمتاز فيللر- كوتري بأنها موطن ألكسندر دوما، أول كاتب فرنسي متعدد الأعراق (كانت جدته سوداء).