أعلن الرئيس رجب طيب
أردوغان أثناء استقباله
نظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في إسطنبول الأسبوع الماضي؛ عن مقاربة محدثة
ومطورة للموقف التركي من الغزو الروسي لأوكرانيا، التي كانت ولا تزال تستند إلى
نفس الأسس الصلبة والأخلاقية والفكرية والسياسية مع تطوير يتعلق بالمتغيرات
والمستجدات الأخيرة فيما يخص
تركيا نفسها، وتصاعد دورها وحضورها إقليمياً ودولياً،
كما فشل الغزو وارتداداته السلبية على
روسيا وصورتها وهيبتها داخلياً وقاريّاً
ودولياً أيضاً.
أكد الرئيس أردوغان كما العادة على الأسس
الثابتة للمقاربة التركية والمتضمنة رفض الغزو الروسي لأوكرانيا باعتباره خطأ جسيما
لا بد من العودة عنه بأقرب فرصة ممكنة، إضافة إلى التأكيد على سيادة أوكرانيا
ووحدة أراضيها، ورفض ضم روسيا لأي مقاطعات أو أقاليم أوكرانية بما فيها الضم غير
الشرعي لشبه جزيرة القرم في العام 2014.
أكد الرئيس أردوغان كذلك على دعم أوكرانيا
ومساعدتها للدفاع عن نفسها، بينما تحدثت وسائل الإعلام عن تسريع خطوات إقامة مصنع
للطائرات المسيرة بيرقدار في أوكرانيا، علماً أنها كانت ولا تزال حاسمة في التصدي
للعدوان وإفشال الغزو خاصة في الأيام الأولى والحاسمة.
تحديث أو تطوير المقاربة التركية فتمثل بدعم انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو بعد انتهاء الحرب بالطبع، مع الاهتمام بالفكرة وإبقائها على جدول أعمال الحلف والدول الداعمة لأوكرانيا وقضيتها العادلة، علماً أن تركيا تبنت في الماضي فكرة تقديم ضمانات أمنية لأوكرانيا مع انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي وفق نموذج النمسا الدولة المحايدة وغير العضو بالناتو
المقاربة التركية تضمنت أيضاً إعلان الاستعداد
الدائم للوساطة بين الطرفين من أجل التوصل إلى اتفاق سلام نهائي بينهما وفق
القانون الدولي وقواعده، إضافة إلى مساعدة أوكرانيا على التعافي وإعادة إعمار
البلاد بشكل عام، والمناطق المدمرة بفعل العدوان الروسي بشكل خاص.
أما تحديث أو تطوير المقاربة التركية فتمثل
بدعم انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو بعد انتهاء الحرب بالطبع، مع الاهتمام
بالفكرة وإبقائها على جدول أعمال الحلف والدول الداعمة لأوكرانيا وقضيتها العادلة،
علماً أن تركيا تبنت في الماضي فكرة تقديم ضمانات أمنية لأوكرانيا مع انضمامها إلى
الاتحاد الأوروبي وفق نموذج النمسا الدولة المحايدة وغير العضو بالناتو.
تطور المقاربة التركية للقضية الأوكرانية تمثل
كذلك بسفر الجنود أو الأسرى المحررين من كتيبة أزوف، والسماح لهم بالعودة إلى
بلادهم صحبة الرئيس زيلينسكي نفسه.
يمكن افتراض أن هذا تم بناء على طلب شخصي
لزيلينسكي لم ترفضه تركيا خاصة مع إطالة أمد الحرب، علماً أنها توسطت في اتفاق
تبادل أسرى قبل شهور نصّ على بقائهم في تركيا، وعدم عودتهم إلى بلادهم إلا بعد
انتهاء الحرب التي طالت أكثر مما ينبغي. وأعتقد أن تركيا اعتبرت أن ذلك لا ينال من
روح اتفاق التبادل، وأن روسيا لن تصعّد لجزئية صغيرة وهامشية لا تتناقض جوهرياً مع
روح اتفاق تبادل الأسرى، خاصة مع مكوثهم فعلاً لشهور طويلة في إسطنبول، وكان بإمكانهم
المشاركة وتقديم الخبرات والاستشارات والقيام بواجباتهم الوطنية والقومية مع
التقدم الهائل في وسائل الاتصال.
بالعموم، يرتبط تحديث أو تطوير المقاربة
التركية للغزو الروسي والقضية الأوكرانية بشكل عام بثلاثة معطيات وعوامل أساسية؛
أولها قوة تركيا المتصاعدة على كل المستويات وتحولها إلى نقطة ربط وتواصل بين
القارات والشرق والغرب والشمال والجنوب؛ ليس جغرافياً واقتصادياً فقط، وإنما
سياسياً أيضاً مع الحضور الإيجابي في قضايا إقليمية ودولية عديدة. ولا شك أن فوز
الرئيس أردوغان بالانتخابات الرئاسية والبرلمانية الأخيرة الحاسمة والمفصلية أعطى
دفعة سياسية ومعنوية قوية له وللبلاد؛ بكل ما أشاعته من أجواء كرّست تأكيد حالة
الاستقرار والنهوض داخلياً وخارجياً.
المعطى الثاني، يتمثل بضعف روسيا إثر تورطها
وغرقها في الوحل المستنقع الأوكراني وعجزها عن تحقيق الانتصار وفق أهدافها المعلنة
للغزو، بينما كان تمرد مرتزقة فاغنر الأخير مجرد تعبير وإعلان فظّ ومدوٍ عن هذا الأمر.
أما المعطى والعامل الأخير فمرتبط بصمود أوكرانيا
بمواجهة الغزو وإفشاله، بل وانتقالها من الدفاع إلى الهجوم لتحرير أراضيها المحتلة
في ظل حالة التعاطف الكبير والواسع معها أوروبياً ودولياً، سياسياً واقتصادياً
وعسكرياً.
من هنا يمكن فهم التعاطي التركي باعتبار قصة
الجنود بسيطة، حيث تصرفت أنقرة بثقة، كما جاء رد فعل موسكو واقعياً ومتوقعاً أيضاً
لجهة تفهّم الموقف بحيثياته وخلفياته، كما عضويتها في حلف الناتو وتضامنها مع سياساته،
والتأكيد على أن ذلك لن يؤثر سلباً أو يؤدي إلى تعكير أجواء العلاقات بما في ذلك
مركز الغاز الروسي في تركيا لنقله إلى جنوب ووسط أوروبا.
ومن هذه الزاوية، يمكن فهم حديث الرئيس أردوغان
الواثق عن تواصله المستمر مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين ثم استقباله الشهر
القادم في إسطنبول أيضاً لمناقشة ملفات عدة؛ منها تمديد اتفاق تصدير الغذاء العالمي
لثلاث شهور إضافية، كما مواصلة العمل على تبادل الأسرى، مع تجاوز قصة الجنود الخمسة
من كتيبة آزوف التي لن تؤثر كون تركيا القناة الوحيدة والموثوقة في تبادل الأسرى
والمفاوضات بين الطرفين من أجل التوصل إلى اتفاق السلام النهائي.
أما قصة انضمام أوكرانيا للناتو وإضافة إلى
المعطيات السابقة فهي مرتبطة كذلك بانضمام فنلندا والسويد إليه، وهما مجاورتان
لروسيا التي تعاطت بواقعية مع الأمر، كما أن انضمام أوكرانيا سيحل المشكلة جذرياً،
وسيمنع روسيا من الاعتداء عليها مستقبلاً، ومغادرة أحلامها أو أوهامها التوسعية
طبعاً بعد اتفاق السلام.
تفهم أنقرة وتحلل دلالات وتداعيات تمرد فاغنر الأخير، وإظهاره ضعف النظام والدولة الروسية بشكل عام، التي لم تعد عظمى -حتى من الدرجة الثانية، كما كان يقول باراك أوباما ساخراً- بعدما أصبح غزو أوكرانيا مدمراً لصورة وهيبة البلاد واقتصادها وحتى وحدتها الوطني، غير أن تركيا لن تتصرف أبداً بعداء تجاهها، خاصة أن روسيا الضعيفة المعزولة قد تكون خطرة على نفسها ومحيطها، علماً أنها لم تعد بوضع يسمح لها بابتزاز تركيا في ساحات عدة
في قصة أوكرانيا أيضاً ثمة رسالة إلى أمريكا
والحلف مفادها أن تركيا لا تمانع في توسيعه وتقويته بل تسعى لذلك دوماً، وممانعة أو
رفض انضمام فنلندا والسويد إليه كانا مبررا وقائمة على مسوغات منطقية وصحيحة أيضاً،
ولا يمكن أن تمثل الدولتان تهديداً لأمن تركيا عبر استضافة تنظيمات معادية إرهابية،
أو منع السلاح والمعدات العسكرية عنها ضمن تعاون مفترض وحتمي بين دول الحلف الذي
تمثل تركيا فيه قوة مركزية لا غنى عنها.
بتركيز واختصار، باتت تركيا القوية والناهضة
داخلياً والحاضرة خارجياً داعمة وبقوة لانضمام أوكرانيا إلى الحلف، مع دعمها
الدفاعي بما في ذلك الطائرات المسيّرة ومساعدتها على التعافي، وإعادة الإعمار
والحضور القوي في هذه العملية التي بدأت جزئياً في بعض المدن إثر دحر الاحتلال
الروسي وفشل الغزو واحتلال البلاد، وستكون بعد الاتفاق وإنهاء الحرب عملية عملاقة
بعشرات وربما مئات مليارات الدولارات، وتركيا ستكون حاضرة ولها نصيب واسع منها.
إلى ذلك، تبدو أنقرة حريصة على علاقات قوية مع موسكو
ولا تنوي التفريط بها كون المصالح مشتركة وراسخة أيضاً، حيث لا معاداة لروسيا أو
انخراط في محاولات استهدافها وإضعافها. وبالتأكيد تفهم أنقرة وتحلل دلالات
وتداعيات تمرد فاغنر الأخير، وإظهاره ضعف النظام والدولة الروسية بشكل عام، التي لم
تعد عظمى -حتى من الدرجة الثانية، كما كان يقول باراك أوباما ساخراً- بعدما أصبح غزو
أوكرانيا مدمراً لصورة وهيبة البلاد واقتصادها وحتى وحدتها الوطني، غير أن تركيا لن
تتصرف أبداً بعداء تجاهها، خاصة أن روسيا الضعيفة المعزولة قد تكون خطرة على نفسها
ومحيطها، علماً أنها لم تعد بوضع يسمح لها بابتزاز تركيا في ساحات عدة، خاصة مع
التمسك بعلاقات وقنوات مفتوحة معها وفق المصالح المشتركة ومبادئ القانون الدولي.