انطلق شريعتي في تعريفه
للمثقَّف من حُسن فهمه لدور "طبقة
المثقفين" الأوروبية، التي أخرجت
قومها من ظلام العصور الوسطى الكاثوليكية إلى عصور الإصلاح الديني البروتستانتي
والنهضة والاستنارة. لكنَّه يعي جيدا الفارِق الجلي في الخلفيَّة التاريخية،
والهوة الكبيرة بين الكاثوليكية والإسلام، ومن ثم؛ فهو لا يُسقِط تاريخ المثقف
الغربي وتجربته على سياقنا، وإنما يستعير حجم دوره وعمق استشعاره للمسؤولية فحسب،
ويُفكك النموذج؛ ليُعيد تركيبه في سياقنا مُستلهما الإسلام، وواعيا في الوقت
نفسه بأننا نعيش تحت وطأة خليط هجين من الإسلام والحداثة الملحدة. وإذا كان
المثقَّف الأوروبي/ الغربي -الواعي المسؤول- مُعاديا للدين، وللطبقة
الأرستقراطية، ويجنح إلى الجماهير والأيديولوجيات الوضعيَّة، مع عبادة "العلوم"
الطبيعيَّة/ الماديَّة الحديثة؛ فإن "المثقف المسلم" الحديث وريثٌ للأنبياء، واستمرار لدورهم في التوعية بما ينفع الناس من المعرفة والتزكية، وما
يرتقي به الإنسان.
وشريعتي يُناقِضُ بذلك
أكثر الترهات التي يبني عليها "أشباه المثقفين" تصوراتهم عن مسؤولية
المثقف في المجتمعات المسلمة، سواء منهم المتدينون أو العلمانيون. فالمثقَّف عنده
لا يُعادي الدين ولا يُحارِبه مثلما نرى من العلماني، كما أنه لا يقبل مقولات
التديُّن السائدة مثل المتدين الساذج؛ وإنما يعود إلى المصادر الأصليَّة للإسلام،
ويفتح الباب لتجدُّد الحركة الاجتماعية بتجدُّد فهم الشرع المنزَّل، واعيا بأنه
إذا كان العداء للدين تكرارا ببغائيّا للتجربة الأوروبية، فإن القبول بمقولات
التديُّن المتكلِّسة -والسائدة- يعني المراوحة في المكان، واستمرار الأزمة التي
تُعانيها الأمة منذ أكثر من قرن.
إذا كان العداء للدين تكرارا ببغائيّا للتجربة الأوروبية، فإن القبول بمقولات التديُّن المتكلِّسة -والسائدة- يعني المراوحة في المكان، واستمرار الأزمة التي تُعانيها الأمة منذ أكثر من قرن
وهو في تأسيسه لوظيفة
المثقف، يرسم بعض آفاق تعريفه كذلك؛ عندما يؤكد مركزيَّة فروض الكفايات
وأولوية واجب الوقت. وما ذلك إلا لأن "الحياة في ظلِّ ظروف اجتماعية
معينة؛ تستدعي معالجة موضوعات خاصة، وتبنِّي أهداف محددة، وطرح قضايا معينة. أما
إذا وجَّهنا الأذهان وشغلناها بأمور غيرها؛ فإننا نكون قد ارتكبنا خيانة، مهما كان
المطروح حقائق علمية أو دينية أو فلسفية ثابتة".
فإن إدراك المثقف المسلم
لحقائق العصر، واحتياجات المجتمع؛ يُملي عليه ألا ينشغل بغيرها، وإلا عُدَّ ذلك
نقيصة أخلاقيَّة بحقه ومخالفة شرعيَّة منه؛ فإن الالتفات إلى أزمة موجِبٌ للعمل
على مُعالجتها، كما أن الالتفات إلى معنى موجبٌ للعمل به. وهو بذلك يُرسخ مركزية
عُنصر "الجغرافيا الفكريَّة"، تأكيدا لخصوصيَّة القضايا في كل سياق -مهما
كان حجم المشترك بينه وبين غيره-، وأولوية السياق المحلي على غيره في روع المثقف؛
فما يصحُّ تناوله في مكان قد يَبطُل في غيره، والمدرسة
الفكرية التي قد تكون باب
تحرُّر ووحدة في سياق؛ قد تصيرُ مدعاة تفرُّق وتشرذُم في غيره، كما يتجلَّى من
مثال تفشي شتَّى الأيديولوجيات الحديثة التي شهدها القرن العشرين، في السياق
الغربي قبل انتقالها إلى السياق الإسلامي.
وقد كان إدراك سلفنا
الصالح لهذه التركيبية السوسيو-معرفية، وتغيّرها بتغيّر الزمان والمكان؛ مفتاح
إدراكهم لحتميَّة تغيُّر الفتوى، بل ولضرورة تغيُّر تركيبة المذهب الفقهي كله
بتغيُّر البُلدان؛ كما فعل الشافعي رحمه الله حين ارتحل من العراق إلى مصر. وهو ما
يتجلَّى واضحا في طبيعة الفوارق بين المذاهب الفقهية والكلامية باختلاف الأمصار،
ثم في ارتباط بعضها ببعض؛ الذي لا يعكس الفروق الفرديَّة بين الفقهاء في فهم
النصوص وفي مناهج الاستدلال فحسب، وإنما تنعكس فيه آثار الزمان والمكان انعكاسا بارزا لا تخطئه عين الوعي.
إن المثقفين السنَّة كانوا أقل اكتراثا بهذا من المثقفين الشيعة، لسبب مذهبي شديد الخصوصيَّة؛ إذ حدث إحلال تلقائي تدريجي للعلماء السنة عبر التاريخ، نتيجة ابتعادهم عن الواقع وإشكالاته، أو تجنُّبهم الخوض فيها؛ ما جعل التنظير لوجودهم أو لدورهم بيانا لا قيمة له لتأخُّره عن وقت الحاجة! وذلك بينما ظلَّت القيادة الاجتماعية معقودة بين الشيعة للعلماء التقليديين
وما من مثقَّف حداثي
مسلم، إلا وسعى إلى التنظير لدور المثقف الحديث؛ بوصفه بديلا عن دور المتكلم/ المجدد
التقليدي، بعد ضمور القيادة الاجتماعية لعلماء الإسلام بانفصالهم عن الواقع. بيد
أن المثقفين السنَّة كانوا أقل اكتراثا بهذا من المثقفين
الشيعة، لسبب مذهبي شديد
الخصوصيَّة؛ إذ حدث إحلال تلقائي تدريجي للعلماء
السنة عبر التاريخ، نتيجة
ابتعادهم عن الواقع وإشكالاته، أو تجنُّبهم الخوض فيها؛ ما جعل التنظير لوجودهم أو
لدورهم بيانا لا قيمة له لتأخُّره عن وقت الحاجة! وذلك بينما ظلَّت القيادة
الاجتماعية معقودة بين الشيعة للعلماء التقليديين، وترسَّخت بعد انتصار التيار
الأصولي -منذ قرنين- وتجدَّدت بانعكاسها على الحياة الاجتماعية والسياسية،
وبالحركية المستمرة لقطاعات كبيرة من علماء الشيعة؛ فلم يظهر المثقف الحداثي في
إيران -مثلا- إلا بزيادة البعثات التعليمية، وتوحُّش معدلات التحديث/ العلمنة مع
آل بهلوي بعد الحرب العالمية الثانية، وذلك في الوقت الذي كان المثقفون السنة
فاعلين أصلاء مُبكرين في مجتمعاتهم منذ مطلع القرن العشرين؛ إذ توارى العلماء
التقليديون وعجزوا عن الصدارة، اللهم إلا من اكتسب منهم قدرا من "المعارف"
الحداثية؛ فمالت كفَّته إلى الاصطباغ بصبغة المثقف الحداثي، مُفارقا خلفيَّته
التقليدية؛ مثل رشيد رضا وتلميذه محمد الغزالي. وربما كانت محاضرة سيد قطب المبكرة،
والمعنوَنة "مهمة الشاعر في الحياة"، التي طُبِعَت لاحقا في كتاب (1932م)؛ من المحاولات السنية
النادرة لبلورة هذا الدور وتعريفه، بل ولبلورة مبكرة لمهمته هو شخصيّا -قدس الله
روحه- بوصفه المثل الأعلى لكل مثقف مسلم حديث.
وبما أن تعريف المثقَّف
لصيقٌ بمهمته ومُعبِّرٌ عن مسؤوليته، وأن معرفة المثقف لذاته تبدأ بتعرُّفه إلى
مسؤوليته التي بيَّنا معالمها؛ فإن الخطوة التالية تصيرُ هي تعرُّفه إلى واقعه
الاجتماعي، ليستطيع أن يقرأ فيه مسؤوليته الفرديَّة الخاصَّة المتعينة، ويسلُك
الطريق الذي ينبغي عليه سلوكه حاديا لمجتمعه. فإن علاقة المثقف بمجتمعه وقضاياه
علاقة شديدة التعقيد، فكما صار هو وفكره ثمرة لهذا المجتمع وقضاياه وهمومه؛ فإن
هذه العلاقة عينها تُمسي مصدر قوته الأهم، وهي القوة التي يستمدها من حُسن معرفته
بجغرافية بيئته الثقافية وتاريخها.
علاقة المثقف بمجتمعه وقضاياه علاقة شديدة التعقيد، فكما صار هو وفكره ثمرة لهذا المجتمع وقضاياه وهمومه؛ فإن هذه العلاقة عينها تُمسي مصدر قوته الأهم، وهي القوة التي يستمدها من حُسن معرفته بجغرافية بيئته الثقافية وتاريخها
يرى إدوارد سعيد أن المثقَّف فردٌ يتمتع بموهبة خاصَّة، تمكنه من
حمل رسالة ما، وتجسيدها والإفصاح عنها إلى مجتمع ما. فلم يحدث أن قامت ثورةٌ
كبرى في التاريخ الحديث دون مُثقفين، وفي مقابل ذلك لم تنشب حركةٌ مُناهِضةٌ
للثورة دون مثقفين. فالمثقفون هم آباء الحركات، وأمهاتها. ولا يمكن للمثقف -في هذا
التصوُّر- أداء هذا الدور المؤثر، إلا إذا استشعر أنه شخصٌ عليه أن يطرح علنا أسئلة مُحرجة، وأن يواجه الباطل الذي يجري مجرى الحق، ولو بمفرده، وأن يكون فردا يصعُب على أصحاب السلطة والمال استقطابه، وأن يكون مبرر وجوده هو تمثيل الأشخاص
والقضايا، التي عادة ما يكون مصيرها التجاهل والتدليس والإخفاء.
ولهذا، فإننا نوافق إدوارد سعيد في أن المثقف ليس داعية مُسالمة، ولا
داعية اتفاق في الآراء؛ إذ إنه شخصٌ يخاطر بكيانه كله، باتخاذ موقفه الواعي شديد
الحساسية. وهو موقف الإصرار على رفض الصيغ السهلة، والأقوال الجاهزة المبتذلة، أو
التأكيدات القائمة على المصالحات اللبِقة، والاتفاق مع كل ما يقوله ويفعله أصحاب
السلطة وذوو الأفكار التقليدية. فأبعد شيء -عن هذا التصوُّر- هو وجود مثقف يسعى
إلى جعل جمهوره يشعر بالرضا والارتياح؛ فإن المقصد الحقيقي هو إثارة الحرج، بل
والاستياء والحنق على فساد الواقع، ومن ثم، الرغبة في تجاوزه وتغييره. وكما قال
أنطونيو غرامشي؛ فإن جميع الناس يفكرون، لكنَّ وظيفة المثقف أو المفكر لا يمكن أن
يضطلع بها كل أفراد المجتمع؛ إذ من المهام المنوطة بالمثقف أو المفكر أن يحاول
تحطيم الأنماط الثابتة والتعميمات الاختزالية والأصنام الفكرية، التي تفرض حُجبا قاتمة وقيودا شديدة على الفكر الإنساني، وتعيق التواصل بين البشر.
وهذا ما يجعل مسؤولية المثقف اليوم ودوره، استمرارا للدور الذي اضطلع
به الصحابة والأئمة والحواريون والأولياء وأئمة المذاهب في المجتمعات التقليدية؛
وذلك بوصفهم امتدادا لحركة الأنبياء والرسل الكرام. فقد بُعِثَ الأنبياء من بين
الناس -واتَّجهوا إليهم في كل حال- لصياغة مبادئ جديدة ورؤية جديدة، وحركة جديدة
وطاقة جديدة؛ لتُزلزل مجتمعاتهم وعصورهم من الأعماق. هذه الحركة الإلهية، التي
كانوا يُفجِّرونها فتجتثُّ جذورا وتغرس بذورا، وتُغير نواميس وتبدِّل وجهات؛
كانت سببا في تغيُّر مصائر كل المُجتمعات الساكنة المُنحطَّة الراكدة، فكانت
الرسالة النبوية فتحا لعهد جديد، وبعثا لتاريخ قديم- جديد.
وفي حين كان التلاميذ والأولياء والحواريون وأئمة المذاهب من "العلماء"
برسالات الأنبياء، فإن هؤلاء الأنبياء أنفسهم لم يكونوا من "العلماء" السابقين،
كما لم يكونوا من العوام الذين يفتقدون إلى الوعي؛ إذ التزموا أعظم الأدوار في
التاريخ وحركته، المرتبطة بالمجتمع الإنساني عموما، وبمجتمعاتهم على وجه الخصوص.
ولهذا، فإنهم نوع ثالث من البشر، حتى قبل أن يؤيدوا بالوحي؛ نوع اختير ليؤيد
بالوحي، إذ شاء الله له ألا ينحدر ليكون من العوام أسرى التقاليد ونتاج الأطر
الاجتماعية، ولا من الكُهَّان والفلاسفة والفنانين، والعُرفاء والعُلماء ورجال
الدين؛ الذين كانوا أسرى لأوهامهم وتصوراتهم وأهوائهم، وغرقى في کشوفهم وكراماتهم
العلمية والباطنية!
المثقَّف مُتلق "واع مسؤول"، ينهل من المعين النبوي مباشرة؛ ليضطلع بأعظم مسؤولياته وأهدافه، وهي إعادة الوديعة الإلهية الكبرى إلى بني البشر: المعرفة والوعي؛ فإن الوعي هو الذي يُبدِّل حال الجماهير المنحطَّة الراكدة، فتصير كأنها مرجل بنَّاء في حالة فوران، كما أن هذا الوعي نفسه هو "خالق" العبقريات الفذة والنقلات البعيدة
وعليه، يُضيّق شريعتي تعريفه -مُحقّا-؛ إذ يقرر أن المثقفين هم "نُظراء"
الرسل في تركيب نفوسهم وورثتهم في حركتهم الاجتماعية، وليسوا من طائفة الكُهَّان
ولا هم من العوام المنحطين؛ أي إنهم يُجاهدون نفوسهم للوقوف مع تلاميذ الأنبياء
وصحابتهم وحوارييهم وأئمة المذاهب من العلماء برسالاتهم. فإن المثقَّف مُتلق "واع مسؤول"، ينهل من المعين النبوي مباشرة؛ ليضطلع بأعظم مسؤولياته وأهدافه، وهي
إعادة الوديعة الإلهية الكبرى إلى بني البشر: المعرفة والوعي؛ فإن الوعي هو الذي
يُبدِّل حال الجماهير المنحطَّة الراكدة، فتصير كأنها مرجل بنَّاء في حالة فوران،
كما أن هذا الوعي نفسه هو "خالق" العبقريات الفذة والنقلات البعيدة.
إن مسؤولية المثقف في زمانه، هي الاضطلاع بدور النبوَّة في مجتمعه
والنيابة عنها -بعد انتقال النبي إلى الرفيق الأعلى- ونقل الرسالة الإلهيَّة
المعصومة -بعصمة الله- إلى الجماهير، ومواصلة الأذان؛ أذان الوعي والخلاص والنجاة
في آذان الجماهير الصمَّاء، التي أصیبَت بالوَقر. أن يؤذِّن مُبينا الوجهة
والعلَّة، ويقود حركة المجتمع المتوقِّف، ويُضرِم نيرانا جديدة في مجتمعه الخامد.
وهذا عمل لا يضطلع به المشتغلون بالعلوم الوضعية؛ لأن مسؤوليتهم محدودة بأفق
حركتهم، وتصوراتهم المسبقة وتحيزاتهم الثقيلة، ويكفيهم "النجاح" في منح
الحياة أكبر قدر ممكن من الإمكانات المادية، ومعرفة "الوضع الراهن"؛
لكشف قوى الطبيعة والإنسان واستغلالها.
إن المشتغلين بعلوم المادة، والتقنيين
والفنانين؛ قد يمنحون المجتمع البشري -أو مجتمعهم الخاص- "قوة ماديَّة"
بوجودهم. لكنَّ المثقفين يُعلِّمون المجتمع كيف يسير، ويمنحونه الغاية التي يسير
إليها، ويصوغون رسالة التحول، ويوجهون الاستجابة للتحول إلى نسق بعينه، وينيرون
الطريق للحركة الاجتماعيَّة؛ التي تعرج صاعدة إلى الله.
twitter.com/abouzekryEG
facebook.com/aAbouzekry