منذ أن تفتحت أعيننا في العاصمة القطرية الدوحة، التي ولدت فيها، ونحن على غرام مع هذه الكرة المستديرة، أو «قوطية البيبسي»، التي كنا نستعيض بها أحيانا عن الكرة في المدارس الابتدائية بالدوحة، فكرة القدم كانت تمنح لنا فقط خلال حصص الرياضة بطبيعة الحال، ولكن ماذا يفعل طلاب يريدون لعب كرة القدم في كل استراحة بين حصص الدراسة، سوى أن يجلبوا كرة تنس صغيرة، وأن يخفوها عن أعين الإدارة، وإذا تعذرت كرة التنس كنا نلجأ أحيانا لإعادة تدوير علب البيبسي، «القوطية»، بضغطها وتحويلها لجسم مسطح يسهل تقاذفه بين الأقدام!
وفي سنوات الدراسة اللاحقة، في مدارس مشيرب والاستقلال الثانوية، لم يعد جلب كرة القدم أمراً صعباً، خصوصا أن المدارس مجهزة بملاعب كرة اليد ذات الأرضية الإسمنتية، وكذلك ملاعب كرة قدم عشبية خضراء، توفرت الكرة والملاعب لكن جلب حذاء رياضي كل يوم أمر صعب، لذلك كان بعض الطلاب يلعبون بأقدام حافية، خصوصا زملاءنا القطريين المعروفين بمهارتهم وعشقهم لكرة القدم، لدرجة أنهم كانوا كثيرا ما يلعبون بأقدام حافية على أرضية إسمنتية وهم يرتدون الثوب المحلي، فقد تميزوا بشدة التحمل والمهارات العالية وعشق للعبة يغلب حتى الاهتمام بالدراسة.
كانت ساحات كرة القدم تنتشر في أحياء الدوحة، بين السد ومشيرب والريان والمطار القديم والغرافة والدفنة، وحتى موقع قناة «الجزيرة» الحالي كان ساحة كرة قدم.
وفي عام 1981، ظهرت أولى إنجازات الجيل الأول لكرة القدم القطرية، حين فازوا بالمركز الثاني في كأس العالم للشباب في أستراليا، بقيادة المدرب البرازيلي الشهير إيفرستو، وبرز حينها نجوم مثل بدر بلال وخالد سلمان ويونس أحمد ودهام وغيرهم، تمكنوا من الفوز على إنكلترا والبرازيل، ثم تأهلوا لأولمبياد لوس أنجلس لاحقا مع المدرب نفسه.
وكثير من نجوم تلك المرحلة ما زالوا يظهرون كمحللين في قنوات «بي أن سبورت» و»الكأس»، مثل يونس أحمد وكذلك خالد سلمان، الذي بات سفير كأس العالم الحالية في الدوحة، وللسفير خالد سلمان قصة أخرى معنا نحن أبناء المدارس القطرية الذين تشربوا عشق كرة القدم في قطر.
ففي مدرسة مشيرب الابتدائية، تفاجأنا يوما بأن عددا من نجوم المنتخب القطري، جاءوا مدرسين لنا في حصص الرياضة، عادل خميس وخالد سلمان أصبحا من أساتذتنا في حصص الرياضة أواخر الثمانينيات، وفي تلك السنوات استضافت قطر كأس آسيا للشباب، وصدف أن خصص ملعب مدرستنا الإعدادية مشيرب لتدريب منتخب سوريا للشباب، يومها كنا نراقب نجوم منتخب سوريا، وعلى رأسهم مالك شكوحي، من نوافذ الصفوف الدراسية، وذهبت كل شروحات الأساتذة في الحصص الدراسية هباء، فالطلاب مشدودون للنوافذ، حيث مالك شكوحي ورفاقه، وما أن دق جرس الفسحة، حتى انطلقنا لأخذ تواقيع لاعبي المنتخب، يومها توجهت لمالك شكوحي وأخبرته عن بيت جدي في المزة بدمشق، وكل ظني أن حارة بيت جدي في دمشق هي كل سوريا، وعندما أراد شكوحي أن يكتب في دفتر مذكراتي، بحثت عن طاولة أو طريقة لتثبيت الدفتر، فمد شكوحي فخذه الممتلئ بالعضلات وكتب عليه بكل يسر.
حينها كانت قطر تنهض كدولة رياضية في عدة ألعاب، في ألعاب القوى كان أسرع رجل في آسيا هو طلال منصور، وبطل سباقات 1500 متر محمد سلمان، وبطل العالم في البولينغ هو سالم بوشرباك، وظهر إصرار قطري على التميز أيضا في استضافة البطولات الكبرى، كانت بدايتها أن استضافت قطر كأس أمم آسيا عام 1986، وأذكر كيف استدعي النجم الفرنسي ميشيل بلاتيني لتنفيذ ركلة البداية، وبدأ التركيز على الإعلام الرياضي، وبرز منذ ذلك الحين في القناة القطرية المذيع السوري أيمن جادة، ليس فقط كمذيع رياضي ومعلق لكرة القدم، بل كمقدم برامج في تلفزيون قطر، وهو يعمل حاليا في قنوات «بي أن سبورت».
وكان كثير من الإعلاميين القطريين كانوا يتحدثون عن نيتهم في إطلاق قناة فضائية عربية رياضية، قبل أن يتحول المشروع لقناة إخبارية وهي «الجزيرة».
وطوال الحياة الكروية القطرية، كان الوجود العربي مؤثرا، وأضفى نكهته الخاصة، حتى في صفوف المنتخب القطري برز منذ السبعينيات لاعبون من لبنان وفلسطين وغيرها من البلدان، مثلا كان حارس منتخب قطر في السبعينيات هو اللبناني محمد وفا، وأصبح مدربا لاحقا لفريق شباب نادي السد القطري بطل آسيا، وقد تدربت تحت إشرافه خلال الفترة القصيرة التي انضممت فيها لفريق شباب نادي السد، وهو الحي الذي سكنت فيه منذ الطفولة، وكذلك برز لاعبون آخرون مثل عادل جدوع وياسر نظمي ووسام رزق، وهؤلاء من المقيمين العرب القدماء بالدوحة الذي جاء أهاليهم للدوحة منذ الخمسينيات والستينيات، وسكنوا أحياءها القديمة مثل أم غويلينة والغرافة والريان وتشربوا عشق كرة القدم منذ أيام الصبا في المدارس مثلنا.
كما ترك النجوم العراقيون لمستهم الخاصة في الحياة الكروية القطرية كمدربين ولاعبين، إن كان عدنان درجال، أو المعلق الرياضي الشهير مؤيد البدري، الذي تولى مهام إدارية في الأندية القطرية، والنجوم ليث حسين والمرحوم أحمد راضي في نادي الوكرة، وأذكر كيف كنا نشجعهم في نادي الوكرة، وكل هؤلاء توافدوا لقطر عقب حرب الخليج عام 1991، بعد الحصار والتضييق الكبير الذي فرض على العراق، ولكن قطر حينها كانت من الدول التي فتحت ذراعيها للكفاءات العراقية.
كذلك كانت من المصادفات التي جمعتنا بكرة القدم في قطر، أن أحد بناة كرة القدم القطرية ورئيس الاتحاد الآسيوي لكرة القدم وعضو الفيفا، محمد بن همام العبد الله، كان صديقا لوالدي في الدوحة منذ اواخر السبعينيات، وكثيرا ما زارنا في المنزل، وقد تولى رئاسة نادي الريان القطري في بداياته، شاهدت بن همام آخر مرة في ملعب الشعب ببغداد، منتصف التسعينيات خلال دراستي الجامعية ببغداد، وكان يحضر يومها على المنصة في مباراة قطر والعراق، والتي غالبنا فيها الحنين لمنتخب قطر وشجعناه، وكان أبرز نجومه حينها محمد سالم العنزي.
وقد لعب محمد بن همام دورا محوريا في فوز قطر باستضافة كأس العالم الذي أعلن عنه عام 2010، وقد ذكر قبل أيام في لقاء مع قناة الكأس القطرية، أن القصة بدأت في دعوة عشاء جمعت أمير قطر السابق الشيخ حمد بن خليفة مع جوزيف بلاتر عام 2006، في قصر الوجبة بالدوحة، يومها طرح الشيخ حمد فكرة استضافة كأس العالم، ليجري العمل على هذا الملف لأربعة أعوام حتى تحقق الحلم عام 2010.
(القدس العربي اللندنية)