اثنا عشر يوماً هي الفترة التي قضاها الشهيد عُدي التميمي حراً طليقاً، وإن مطارداً، قبل أن يرتقي على مدخل مستوطنة معاليه أدوميم. يصعُب بعد رحيله تصور ما كان يجول في خاطره طيلة تلك الأيام بدقة، ولا نستطيع بعد ارتقائه أن نتكهن بما كان يعتمل في صدره من مشاعر، ولا بالغضب الذي لا بد أنه دفعه في المقام الأول للإقدام على عمليته الأولى عند حاجز شعفاط؛ لكننا، استناداً إلى ما كتبه شخصياً، نعلم أنه كان موقناً بنهايته الحتمية القريبة، باستشهاده.
تلك كانت الضربة الأولى، ضربةٌ لحالة الركود الداخلي في ظل تغيراتٍ دولية مزلزلة والاستكانة والتسليم التي ركن لهما النظام الرسمي العربي، الميت – الحي، ذلك المرهق المسكون بالهزيمة، الخارج في مجمله من موسم ثوراتٍ مهزومة، الذي يعيش ليل الثورة المضادة.
أما الضربة الثانية، والمدهشة تماماً بقدر ما هي مبهجة، فهي تلك التي أقدم عليها الشباب الفلسطيني، الذي ما أن أذاعت قوات الاحتلال أن مرتكب الهجوم الأول كان أصلع أو حليق الرأس حتى سارع في المناطق المحيطة إلى الحلاقين وقاموا بحلق رؤوسهم تماماً، بالمجان في لفتةٍ، أو فعلٍ لنكن أدق، تضامنٍ ليصعب، بل شبه يستحيل، على قوات الاحتلال ملاحقته والعثور عليه.
كلا الموقفين والأيام المشحونة التي صاحبتهما حتى سقوط عدي شهيداً، وما أعقب ذلك من مظاهر الفخر والحزن والحداد، وتجديد العهد على الصمود والمقاومة، تستحق الوقوف أمامها فترةً للتأمل واستنتاج وقراءة ما تحت السطح من دلالات، قبل أن ينجح الإعلام العربي في طمسها، كما يفعل دائماً.
مشروع الاحتلال الاستيطاني والدولة غير المنيعة
لم يخف على مؤسسي الكيان الصهيوني وداعميهم الغربيين، خاصةً السياسيين المحترفين «العمليين» الذين لا يصدرون عن آراءٍ دينية أو أيديولوجية في المقام الأول، أن المشروع برمته، وعلى الرغم من فوائده العملية، غير طبيعي. إنك تزرع كياناً غريباً ومنفصلاً ومتبايناً في محيطٍ منسجمٍ بصفةٍ عامة، تخلق عبر آلاف السنين.
ما يحدث منذ زيارة السادات للقدس (وما قبلها في حقيقة الأمر) هو محاولة فرض هذا الحضور والقبول به بشتى الوسائل، ولعل كلمة التطبيع شديدة الدقة، إذ أن المحاولة كانت ولم تزل لجعل الناس «يبتلعون» ومن ثم «يستسيغون» خسارة أراضيهم وأوطانهم وذكرياتهم وشتاتهم وإهانتهم ومعاملة الباقين منهم كمواطنين من الدرجة الثانية فما أقل، والقبول بالعجرفة والتعالي الإسرائيليين من قبل المحيط العربي بأكمله.
في سبيل ذلك استُخدمت القوة لتأكيد معاني المنعة واستحالة التغيير بالقوة المضادة، وغرس اليأس من ذلك والتسليم، وقد أتت بنتيجة، إذ تخلت دول المواجهة عن فكرة الكفاح المسلح، ولم يبق سوى التفاوض (تسول مقنع طويل وعبثي ومضنٍ لاستعادة الحقوق في حقيقة الأمر)؛ هذا بالطبع مقرون بالتلويح ببعض المكاسب المادية التي تصب في جيوب الشرائح الحاكمة والمتحلقين حولها.. ثم تأتي عمليةٌ كعملية عدي التميمي، لتثبت أن كل الترتيبات ليست سوى مبانٍ من الرمال، إن الاحتلال الاستيطاني في قلب العالم العربي لم يزل غير طبيعي، المحيط يمجه ولن يلبث أن يلفظه، والشعوب المحيطة ستفيق يوماً ما على بشاعة الحقيق
الأهم، تثبت العملية أن فرداً واحداً بمسدسٍ قادرٌ على فضح هشاشة وزيف هذه الترتيبات وأن الدولة الصهيونية والآلة الإسرائيلية الأفضل تنظيماً والأكفا غير منيعة بالمرة.
الأنظمة المهزومة والحاضنة الشعبية وإرادة المقاومة
لقد أثبت إقدام الشباب الفلسطيني على حلق رؤوسهم على أن ما لا يقل أهميةً عن فعل المقاومة هو إرادة المقاومة، فهي موقفٌ في حد ذاتها، وفعل تحيزٍ يؤدي إلى نتائج طال الزمن أم قصر، وقد أثبتوا أنه كفيلٌ بدفع الناس للابتكار والتجديد بطرقٍ مدهشة ويستحيل مجابهتها من العدو.
كما أثبت، في تواترٍ معضدٍ للكثير من المواقف السابقة، أن الحاضنة الشعبية الفلسطينية للمقاومة لم تزل بخير، حيةً نابضةً مستعدةً للدعم والتفاني رغم الجوع والحصار، وأن المشكلة كانت ولم تزل في الأنظمة والطبقات الحاكمة التي ارتضت بالوضع الراهن، وراهنت منذ منتصف القرن الماضي، ربما منذ نشأة الكيان، وعلى مراحل ، على المحور الأمريكي- الإسرائيلي، ومن ثم رأت المستقبل والطريق في التسوية، واعتبار المشكلة الفلسطينية مسألة منتهية ومشكلة لاجئين أو فائضٍ بشري في نهاية الأمر، سيتم استيعاب جزءٍ منه في الكيان الصهيوني والباقي سيتم «تصريفه» في قنواتٍ متعددة في الداخل ودول الجوار( ما تحملت) والمهاجر وينتهي الموضوع، ودمتم..
لم تعد تلك الأنظمة تهتم بطبيعة الكيان الصهيوني ومغزاه والهدف منه، فكل ما يهمها هو البقاء، بأي ثمن، والاستمرار في الاحتفاظ بنفوذها وثرواتها، لذا دأبت على استغلال المقاومة كورقة ضغط في سبيل مصالحها وتحسين شروط الاستسلام، وفي النهاية تخذلها وتسلمها، أو تتخلى عنها للإسرائيليين يفعلون معها ما يشاؤون.
لست أكتب هذا مزايداً ولا متحذلقاً ولا داعياً لأي عملٍ متهور، بل لتأكيد أن الوضع لن يستقر ولن يستمر على هذه الحال، وإنك لا تعرف من أين ستأتي الشرارة التي ستضرم كل شيء ولا كم عديٍ آخر يمشي في شوارعك يا فلسطين، مجهولاً حتى الآن. حين كنت أسمع كلمات كابتن غزالي «وعظم اخواتنا نلمه نلمه، نسنه نسنه، نعمل منه مدافع، وندافع» كنت أحسبه مجرد صرخةٍ عاطفيةٍ لقلبٍ جريحٍ، إلا أنني مع الوقت رأيت وفهمت: إنها إرادة المقاومة والصمود، التي دفعت أبناء السويس لمجابهة آلة الحرب الإسرائيلية في أكتوبر 73 وأهل بيروت في 82 وأبطالنا في فلسطين، الذين لا ينتهون ولا يكفون عن المقاومة، بصغارهم، بنسائهم بمقعديهم.. بعُديهم وحالقي رؤوسهم.
* كاتب مصري
(القدس العربي اللندنية)