محطة أكتوبر هذه السنة، ستكون بدون شك حاسمة بالنسبة لقضية نزاع الصحراء على الأقل من جهة الرهان على تثبيت مكتسبات قرار 2602 من جهة المغرب أو النكوص عنه من جهة الجزائر.
قرار مجلس الأمن 2602، الذي صدر في أبريل من السنة الماضية، عكس في الجوهر التقدم الذي حصله المغرب على واجهات عدة، سياسية ودبلوماسية، إذ استثمر المغرب الاعتراف الأمريكي بسيادته على الصحراء، والتوتر الحاصل في العلاقات الفرنسية الجزائرية، واطراد وتيرة التطور الحاصل في علاقاته مع روسيا لتحقيق أربع نقاط مهمة، أولها انتزاع إقرار أممي، بأن الجزائر طرف في نزاع الصحراء وليست طرفا مراقبا كما تقدم نفسها. بيان ذلك أن القرار أكد أن الموائد المستديرة بمشاركة كل الأطراف بما في ذلك الجزائر هي الآلية الوحيدة لتدبير مسار التسوية، ناهيك عن تواتر ذكر الجزائر في القرار (ذكرت خمس مرات) بنفس الوتيرة الذي ذكر بها المغرب، بما يدل على أن مجلس الأمن يشترط حضور الجزائر في مسلسل التسوية كطرف في النزاع. والثاني، أن القرار ربط غاية المسار (مسلسل التسوية) بتحقق حل سياسي واقعي توافقي قابل للتطبيق، وهو ما يعني الإشارة إلى المقترح المغربي للحكم الذاتي، الذي تم وصفه أكثر من مرة سواء من جهة مجلس الأمن أو من قبل مبعوثيه السابقين أو من طرف معظم القوى الدولية بهذا التوصيف، بخلاف حل الاستفتاء الذي وصف أمميا بأنه حل غير واقعي وغير توافقي.
أما الثالث، فيرتبط بالالتزامات الأمنية، إذ جاء القرار عقب أخطاء استراتيجية دفعت البوليساريو إلى استهداف معبر الكركرات، وتهديد التجارة الدولية العابرة إلى إفريقيا. وقد كان من نتائج ذلك، أن هيأ المغرب المنتظم الدولي للقيام بدوره في حماية التجارة الدولية، وتأمين معبر الكراكرات، وهو ما نجح في القيام به، دون أن يثير سلوكه أي رد فعل دولي سلبي، في حين ارتكبت جبهة البوليساريو خطأ جسيما آخر، تمثل في إعلانها رسميا الانسحاب من التزامها بوقف إطلاق النار، وهو ما كان موضوع تنديد قرار مجلس الأمن، إذ عبر عن «انشغاله العميق» من هذا الموقف الذي يمس في الجوهر بالالتزامات المبرمة بين الطرفين بإشراف أممي. وتجسد المكسب الرابع، في تحذير المجتمع الدولي من أي عمل يمس بالاستقرار في المنطقة، مما يشكل رسالة واضحة إلى الجزائر والبوليساريو اللذين صدر منهما إشارات بإمكان القيام بعمل عسكري ضد المغرب.
القراءة المغربية للقرار تزكي هذه المكاسب، فجو الارتياح كان باديا في بلاغ وزارة الخارجية المغربية، بخلاف موقف كل من الجزائر، فقد كان الأمر مخالفا تماما، إذ أعربت الخارجية الجزائرية وقتها عن «عميق أسفها» للقرار وعدم دعمها له، واعتبرته قرارا «متحيزا» و«غير متوازن».
ستة أشهر حددها القرار السابق لتجديد ولاية المينورسو، حصلت فيها تطورات كبيرة، لا تسير على نسق واحد، فالمغرب أحرز نقاطا سياسية كبيرة، تمثلت في تحول الموقف الإسباني والألماني لجهة دعم وتأييد مقترحه في الحكم الذاتي باعتباره يشكل أرضية أساسية لحل سياسي واقعي لنزاعه الصحراء، ولم يحدث إلى اليوم، ما يعكر صفو علاقاته مع روسيا، بل على العكس من ذلك، تقدمت هذه العلاقات، وبلغت حد إبرام اتفاق مهم هذا الشهر، تقوم روسيا بموجبه ببناء محطة نووية بالمغرب، في حين، حصلت انعطافة مهمة في العلاقات الجزائرية الفرنسية أسفرت عن إبرام ما سمته الجزائر «شراكة استراتيجية استثنائية» مع باريس توجت بإرسال وفد وزاري كبير للعاصمة وإبرام اتفاقات تشمل مختلف مجالات التعاون بين البلدين. في حين، عرفت العلاقات المغربية الفرنسية جمودا مشوبا بكثير من الحذر، تبرز مؤشراته محاولة الطرفين تطويق التوتر، وجعله لا يتجاوز سقف التوتر المنخفض، أما العلاقات مع الصين، فتشهد طفرة مهمة بين الرباط وبكين، وذلك منذ جائحة كورونا، وسط حديث عن قرب كسب بكين لصفقة القطار الفائق السرعة بين الدار البيضاء وأغادير.
على المستوى الدبلوماسي، لم تسجل تحولات كبرى أربكت الصورة التي كانت عليها في الستة أشهر الماضية، إذ ظلت الدينامية المغربية في إقناع الدول بسحب اعترافها بالبوليساريو مستمرة ونشطة، كما كسبت نقاطا أخرى على مستوى تنامي التمثيليات الدبلوماسية للدول في الأقاليم الجنوبية، في حين، استثمرت الجزائر أجواء اللااستقرار السياسي أو التحولات السياسية التي تعرفها بعض الدول الإفريقية (مالي، بوركينافاسو، غينيا، كينيا، أنغولا) أو الأزمة الاقتصادية الخانقة في (تونس) لإحداث اختراق في الجبهة التي شكلها المغرب زمن جمود الدبلوماسية الجزائرية.
تداعيات ما بعد الحرب الروسية على أوكرانيا، وفرت مبدئيا ظروفا مهمة لتحرك الدبلوماسية الجزائرية، منها وجود وفرة مالية اكتسبتها من جراء ارتفاع أسعار الغاز والنفط في العالم، ومنها حاجة الدول الغربية إلى سد الخصاص الطاقي الناتج عن قرارات بتقليص حجم الارتهان للإمدادات الطاقية الروسية، وهو ما ساعدها في تقوية علاقاتها مع إيطاليا وفرنسا، دون النجاح في كسر التوتر مع مدريد.
الرباط بدورها استثمرت هذه التداعيات لتقوية علاقاتها مع الدول الغربية، سواء باستثمار ورقة الطاقات المتجددة النظيفة (إبرام اتفاق بتزويد بريطانيا من الكهرباء، والهيدروجين الأخضر لألمانيا) أو باستثمار ورقة الأمن والهجرة (إعادة تعريف مفهوم الشراكة مع أوروبا لجهة الاعتراف بالمصالح الحيوية للمغرب لقاء دوره الفعال في تأمين حدودها الجنوبية) أو باستثمار ورقة الأمن الغذائي (الأسمدة الموجهة لإفريقيا) أو من خلال ورقة الشراكة في الاستثمارات العابرة نحو إفريقيا عبر الصحراء.
لحد الآن، ورغم الوفرة المالية التي اكتسبتها الجزائر، فإن الصراع على واجهة السياسة، أو واجهة الدبلوماسية، لم تحدث فيه تحولات مهمة تقلب المعادلة، وتغير الشروط التي أنتجت قرار 2602. ففرنسا، التي تراهن عليها الجزائر لقلب الطاولة على المغرب، تتصرف بحذر شديد، ولا تريد أن تخسر حليفا تقليديا، كانت دائما تنظر إليه كشريك استراتيجي موثوق به، ولذلك، لم يسجل طيلة السنة الماضية، مؤشرات لإدارة التوتر بين البلدين (أي بين الرباط وباريس) خارج مربع السقف المنخفض.
أزمة التأشيرات وما تلاها من توقف الزيارات بين البلدين، أو توقف الإشارات (رسائل تهنئة أو رسائل العيادة عند الإصابة بمرض أو فيروس كورونا)، لم تتطور إلى سقف التوتر الذي بلغته العلاقات سنة 2015، حينما علقت الرباط التعاون القضائي مع باريس، ولم يصل حد المس ببعض المصالح (الاستثمارات الفرنسية بالمغرب)، فالمغرب لم يتعد في هذه الفترة تقديم رسائل إلى فرنسا بأن سياسة تنويع الشركاء تكسب الشركاء الآخرين تضعف حظوظها في المستقبل، بينما تسعى فرنسا إلى أن تضبط إيقاع الزمن في علاقاتها مع الجزائر حتى تمر أزمة الشتاء القاسي.
ثمة معطيات أخرى، ترجح أن يحسن المغرب المكتسبات التي وردت في قرار مجلس الأمن السابق، منها ما يرتبط بوجود قلق أمريكي أوربي (ومن الناتو أيضا) من تنامي الدور اللوجستي الذي تقوم به الجزائر للتمكين للنفوذ الإيراني في منطقة شمال أفريقيا، والنفوذ الروسي في إفريقيا، وثمة أيضا استمرار التوتر الجزائري الفرنسي في بعض الملفات الحيوية (ملف مالي)، مما لم يتم لحد الآن، تحقيق تفاهمات الحد الأدنى فيه.
تقرير الأمين العام الأممي، يعيد تقريبا نفس الظروف التي ساهمت في إنتاج القرار السابق، إذ حصل تثمين الموقف المغربي الذي مد اليد أكثر من مرة للجزائر من أجل عودة العلاقات وتقويتها، وهو ما ينسجم مع رؤية الأمم المتحدة في وضع أسس علاقات مغاربية قوية تضمن أعلى مستوى التنسيق الإقليمي الأمني لمواجهة التهديدات الإرهابية الصادرة من دول الساحل جنوب الصحراء، كما يتضمن ضمن مؤشرات الاشتباكات الأمنية والعسكرية، مؤشرات تدل على تورط الجزائر في النزاع (مركبات جزائرية عسكرية في منطقة بئر الحلو المتنازع حولها ومقتل جزائيين في المنطقة نفسها)، كما يسجل انخراط المغرب في مسلسل التسوية (الموائد المستديرة) وتعنت الجزائر في الانخراط في هذا المسار الأممي.
الحاصل من مجموع هذه المؤشرات سواء منها السياسية أو الدبلوماسية، أو الأممية، أنه لا يوجد لحد الآن أي تحول يفيد بإمكان أن يصدر قرار يسير في الاتجاه العاكس لقرار 2602، ولا تقدم التطورات أي قاعدة لتصور إمكان تحقيق الجزائر لنقاط ولو محدودة في إدارتها للصراع مع المغرب على هذا الملف.