ضربات موجعة تلقتها القوات الروسية في حربها
مع أوكرانيا في الآونة الأخيرة، حتى لكأننا في حلم؛ فلم يكن أحد يتوقع قبل شهر فقط
أن يتقهقر الجيش الروسي ذو السمعة العالمية أمام ضربات الجيش الأوكراني بهذه
الطريقة المهينة التي قزّمت سمعة الجيش الروسي، ووضعتها في أسوأ حالة ممكنة. ومما
يؤكد هشاشة البنية العسكرية وسوء التخطيط لدى الجيش الروسي تهديده بالسلاح النووي؛
فالتهديد بالأسلحة النووية يدل على عجز عن إدارة المعركة بالأسلحة التقليدية
والجيش المدرب؛ فالتهديد بالنووي يعني شيئا واحدا لا ثاني له، ألا وهو الفشل في
التصدي لقوات العدو والوصول إلى حالة من الخوف والقلق من تهديد قادم.
وتنص العقيدة العسكرية لروسيا على أن
الأسلحة النووية وسيلة دفاع وردع فقط، وهو ما يؤكد أنها في حالة دفاع، فهي غير
مهددة بالأسلحة النووية من قبل أوكرانيا ولا حلفائها، وهي إشارة واضحة على أن
روسيا في حالة ضعف أمام الهجمات الأوكرانية التي تتسم بالعناد والإصرار على
الانتصار وتحرير كل الأراضي التي احتلتها روسيا مؤخرا. ولو تحقق لها هذا فلن تتوقف
عن محاولاتها لتحرير شبه جزيرة القرم، وما التفجير الذي حدث منذ أيام في جسر القرم
إلا إرهاصة لعمل عسكري قادم في الجزيرة التي تتمسك بها موسكو وتعدها جزءا لا
يُجتزأ من روسيا، وأظنها مستعدة للتنازل عن المناطق التي ضمتها مؤخرا إذا ما
تنازلت أوكرانيا عن حقها في شبه جزيرة القرم بشكل نهائي.
تنص العقيدة العسكرية لروسيا على أن الأسلحة النووية وسيلة دفاع وردع فقط، وهو ما يؤكد أنها في حالة دفاع، فهي غير مهددة بالأسلحة النووية من قبل أوكرانيا ولا حلفائها، وهي إشارة واضحة على أن روسيا في حالة ضعف أمام الهجمات الأوكرانية
التهديد الروسي باستخدام القوة النووية لا
تأخذه كييف مأخذ الجد، ولا أظن أن روسيا يمكن لها استخدامها بهذه البساطة ودون
قراءة معمقة للتبعات التي يمكن أن تجر العالم إلى حرب نووية ستزيل روسيا ودولا
أخرى من خريطة العالم. وعبر تاريخ الصراع بين الاتحاد السوفييتي السابق والناتو
أثناء الحرب الباردة، وصل التوتر مرات عدة إلى إمكانية استخدام القنابل النووية
التكتيكية، لكن لمعرفة كلا الطرفين بأن استخدام التكتيكية سيؤدي بالضرورة إلى
استخدام الاستراتيجية؛ كانت لغة العقل والمفاوضات الجادة تتحكم في هواجس فناء
البشرية، وسرعان ما تتوقف التهديدات بالتنازلات من كلا الطرفين.
ومع أن حلف
الناتو أبعد ما يكون عن استخدام
القوة النووية في الوقت الحالي، إلا أنه قام بمناورات (غير حقيقية غالبا) من خلال
تحركات في قواعد القوات النووية؛ ليوهم روسيا بجاهزيته للرد، مما أضعف موقف
الأخيرة، وجعلها تفكر ألف مرة قبل أن تقدم على خطوة كهذه. إلا أن روسيا ربما تتوقف
تماما عن التهديد بالنووي لو هي استعادت زمام المبادرة في الحرب الدائرة، واستطاعت
أن تؤمن خطوطها الدفاعية في وجه القوات الأوكرانية التي
تزحف بقوة نحو المناطق
المحتلة في الجنوب والشرق.
وما من شك بأن الأسلحة الغربية لعبت دورا
مركزيا في تقهقر القوات الروسية ووقوفها موقف المدافع المبعثر بعد أن كانت تقف
موقف المهاجم الشرس الذي كان على أبواب كييف، إلى أن صار غير قادر على الدفاع عن المدن
والقرى في شرق أوكرانيا وجنوبها التي تم ضمها لروسيا عبر استفتاءات غير موثوقة ولا
مراقبة من قبل هيئات أممية، لا توافق أصلا على مراقبة عملية تصويت على إجراء خارج
القانون والعدالة الدولية، فاقتطاع أجزاء أصيلة من حدود دولة ذات سيادة لا يمكن أن
يأتي بهذه الطريقة الفجة والعدوانية وتحت طائلة الخوف والتهديد، مع شك كبير في نزاهة
هذه الاستفتاءات.
يعدّ تغيير القائد العام للقوات الروسية المقاتلة في أوكرانيا التغيير الثالث خلال أسبوع، بعد عزل قائدين آخرين بسبب الهزائم التي منيت بها القوات التي يقودانها في جبهتين مشتعلتين في أوكرانيا
ويعدّ تغيير القائد العام للقوات الروسية
المقاتلة في أوكرانيا التغيير الثالث خلال أسبوع، بعد عزل قائدين آخرين بسبب
الهزائم التي منيت بها القوات التي يقودانها في جبهتين مشتعلتين في أوكرانيا. وذلك
مؤشر دامغ على سلسلة الهزائم والانتكاسات التي تكبدها الجيش الروسي في الآونة
الأخيرة، والثمن المر الذي دفعته السياسة الحمقاء جراء التقديرات الخاطئة لطبيعة
المعركة والاستهانة بالقوة الأوكرانية، وسوء التقدير لحجم الدعم الغربي للأخيرة
الذي لم يكن في حسبان الرئيس الروسي على ما يبدو، فقد تصور بغرور القوة أن بإمكانه
السيطرة على كامل التراب الأوكراني خلال مدة قصيرة، ليفاجأ العالم كله بأن روسيا
تقف اليوم موقف المدافع المرتبك الذي يعيد حساباته ويغير قادته، ويحشد نحو 300 ألف
من جنود الاحتياط في معركة يغلب عليها رائحة الموت والدمار في الأيام القليلة
القادمة.
لقد كانت هذه الحرب كاشفة لأسرار القدرات العسكرية
الروسية وسوء التخطيط الآلي واللوجستي، وأظهرت مدى انعدام الثقة والهشاشة
الاجتماعية في روسيا، وذلك حين نقف على
أعداد الذين فروا من البلاد خوفا من زجهم
في الحرب الدائرة، حيث يتراوح عددهم ما بين 700 ألف ومليون فار في بعض التقديرات، وما
زال آلاف من الشباب يهربون إلى دول الجوار حتى يومنا هذا، وأظن أن هذا الفرار يعد
سابقة تاريخية لم نسمع عن مثيلاتها من قبل. وهو ما وضع
بوتين في حرج شديد أمام
خصومه، فما حدث يعد جزءاً من الانتكاسات النفسية التي مني بها بوتين مؤخرا، في
مقاربة إنسانية اجتماعية تشي بانعدام الثقة في القيادة الروسية التي زجت بمئات
الآلاف من جنودها في حرب لم تقنع كثيرين بضرورتها وجدواها؛ ليبرز سؤال مهم هنا:
أوَ لو كانت روسيا هي التي تعرضت لهجوم خارجي؛ هل كان الشباب سيهربون ويتخلون عن
واجب الدفاع عن وطنهم؟!
ركزت روسيا على الصناعات العسكرية، وتفاخرت بصواريخها العابرة للقارات وفرط الصوتية والقاذفات العملاقة والغواصات الحديثة، إلا أنها على ما يبدو لم تركز على العقيدة القتالية للجيش، ولم تعد جيوشها نفسيا وميدانيا بما فيه الكفاية
لقد ركزت روسيا على الصناعات العسكرية،
وتفاخرت بصواريخها العابرة للقارات وفرط الصوتية والقاذفات العملاقة والغواصات
الحديثة، إلا أنها على ما يبدو لم تركز على العقيدة القتالية للجيش، ولم تعد
جيوشها نفسيا وميدانيا بما فيه الكفاية؛ مما أدى إلى تفوق القوات الأوكرانية التي
تدافع عن حقها في أرضها على الأقل في هذه المرحلة. ولا أظن أن روسيا ستتقبل
الهزيمة بسهولة، ونحن ننتظر نتائج إعادة التعبئة للجيش الروسي وتغيير القيادات،
لنقف على التطورات في الأيام القادمة.
إلى ذلك فقد نجح الغرب في التأثير على الرأي
العام العالمي تجاه روسيا بوصفها دولة غازية تستقوي على جيرانها فتقتل المدنيين،
وتقصف البنية التحتية للمدن التي تهاجمها، وتمارس الإجرام والاستعلاء القائم على
الوهم الإمبراطوري على الدول الأضعف في محيطها، كما حدث سابقا في جورجيا التي استسلمت
ورضخت لشروط الكرملين، وربما كان بوتين ينظر لأوكرانيا ذات النظرة بالمقاربة مع
جورجيا؛ فكانت حسابات الحقل مختلفة عن حسابات البيدر؛ فقد كان صمود أوكرانيا
وعقيدة جنودها القتالية فوق كل تصور.
وفي حين تستمر العمليات البرية والجوية بين
الطرفين شرقا وجنوبا، تؤكد أوكرانيا أنها تمكنت من تحرير مناطق واسعة في خيرسون،
بينما كانت القوات الروسية تقوم بقصف واسع وعنيف على زابوريجيا الاستراتيجية في
الجنوب الشرقي؛ مما أدى إلى قتل العشرات من المدنيين وتشريد الآلاف من بيوتهم.
وأمس الاثنين
هاجمت القوات الروسية عددا من المدن الاستراتيجية وعلى رأسها كييف
بصواريخ متوسطة المدى، أدت إلى تدمير منشآت مهمة واستهدفت بشكل واضح البنى التحتية
وأدت إلى مقتل عدد من المدنيين وتحطم مبان وحرق سيارات في قلب العاصمة وأهم
مناطقها، نوعا من الانتقام
لتفجير جسر القرم والانتصارات التي حققها الجيش
الأوكراني وخصوصا في شرق البلاد.
كعادة الحروب؛ لا بد في النهاية من طاولة المفاوضات التي يمكنها أن تؤدي إلى حالة سلم طويلة بعد أن يقدم الطرفان تنازلات قاسية، وسيكون لدول الناتو إسهامات مهمة في المفاوضات، وربما تمارس ضغوطا على كلا الجانبين لتقديم تنازلات
يبدو لي أن حسم المعركة لصالح إحدى القوتين
شبه مستحيل، إلا في حال تخلي الناتو عن أوكرانيا، وهذا غير ممكن. وكييف لن تتوقف
عن صد الهجمة الروسية إلا في حال استطاعت تحرير الأرض التي استولى عليها الروس
مؤخرا، سواء بالحرب أو المصالحة، والمشهد القائم يؤكد استعداد أوكرانيا للاستمرار
في الحرب حتى آخر جندي أوكراني. لكن وكعادة الحروب؛ لا بد في النهاية من طاولة
المفاوضات التي يمكنها أن تؤدي إلى حالة سلم طويلة بعد أن يقدم الطرفان تنازلات
قاسية، وسيكون لدول الناتو إسهامات مهمة في المفاوضات، وربما تمارس ضغوطا على كلا
الجانبين لتقديم تنازلات، وسوف تجد صعوبة في الضغط على أوكرانيا التي تتمسك بحقها
في أرضها ومنها شبه جزيرة القرم، وفي الوقت نفسه ستقدم روسيا بعض التنازلات بعد أن
تنهكها الحرب وتحطم معنويات جنودها، لكنها لن توافق بحال من الأحوال على التخلي عن
شبه جزيرة القرم، فهي خط أحمر بالنسبة لها.
الأيام القادمة سنشهد معارك حاسمة ومزيدا من
عمليات الانتقام الروسي، لكن المهم من يضحك أخيرا.. مع أن الضحك يستحيل بكاء أمام
مشهد الدماء والقتلى والدمار.. إنها الحرب غير العادلة التي يشنها الكبار بغرور
القوة وعنجهية السلاح.