تصاب بالذهول كل يوم، من آلاف الفيديوهات التي يتم بثها بشكل متواصل وتحمل توقعات سياسية، من أسماء تستبصر الغيب، وتدعي معرفتها بالتواريخ والأيام ومصائر الدول.
هذه ظاهرة ليست جديدة، إذ عبر وسائل التواصل الاجتماعي بكل أنواعها، آلاف الفيديوهات لأسماء تبث من العراق، مصر، فلسطين، والجزائر، والمغرب، واليمن، ودول غربية، لأناس يقولون إنهم يعلمون الغيب، وتنهمر التوقعات الروحانية، تارة يقال لنا إن سنة 2022 هي سنة الانقلاب الدموي، وتارة ستقع حرب عالمية ثالثة، وتارة يقولون إن هذا النظام أو ذلك سوف يسقط نهاية 2023، وتارة إن الحرب في أوكرانيا سوف تمتد إلى المنطقة نهاية العام 2024، وتارة إن الحضارة سوف تختفي ونعود إلى العصر الحجري، وتارة إن الزعيم الفلاني سوف يموت قتلا، وآخر شنقا، وثالث سحلا، وتارة إن زلزالا سوف يقع في شهر شباط في جنوب تشيلي.
الكارثة هنا ليس في كذب هؤلاء الذين يبثون كل مرة فتخيب كل توقعاتهم، فنحن بلا ذاكرة ولا نقارن ما قالوه قبل سنتين، مع ما حدث فعلا، بل إن الكارثة تكمن في تصديق كثيرين لهؤلاء، اضافة إلى استمرار هؤلاء في الكذب، وإنتاج أكاذيب جديدة، كلها تدعي معرفتهم بالغيب.
هذه قصة ليست جديدة في العالمين العربي والإسلامي، إذ إن توقع المستقبل والغيب، قديم جديد ويتم نسبه الى كتب قديمة، احيانا، اضافة الى ان قصة التنبؤ نراها في حضارات ثانية، ولدى أمم مختلفة يشتهر لديها مثل هؤلاء الكذبة، والعرافين، والمتنبئين، بل تتم العودة دائما الى بعض ما قالوه وثبت فعليا، وفقا لقولهم، ويتم التعامي عما قالوه وثبت أنه مجرد كذب في كذب.
الوجه الآخر لهذه الكارثة أنها تنافي قيم الدين والإسلام، التي تحرم أساسا الاستماع الى هؤلاء، او حتى تصديقهم، لكننا نجد مئات الآلاف في كل بلد يصدقون هؤلاء، وربما يتبركون بهم، ويبايعونهم أولياء صالحين، انكشف عنهم حجاب الغيب، ويرون ما لا نرى نحن عامة الناس.
فوق كل هذا يلجأ البعض الى طريقة مختلفة، غير ادعاء الاتصال بأسرار الغيب، إذ يقوم البعض بتفسير نصوص روايات قديمة عمرها مئات السنين، ويقومون بإسقاطها على ظروف حالية، وهذا مجرد اعتقاد أو اجتهاد أو توهم يثبت دائما عدم صحته، ويكفي ما نراه من تأويلات هذه الأيام لأحداث تجري وربطها بنصوص قديمة لأشخاص غير معروفين أصلا، قد لا تكون صحيحة، او تكون صحيحة لكنها ليست مرتبطة بهذا الزمن او الاسماء التي يتم توهم أنها هي المقصودة بهذه النصوص، ومصيبة الإسقاط والتفسير كيفما يريدون، مصيبة ثانية.
العقل العربي غائب تماما عن الواقع ومنفصل عنه، فالأمم تتسابق نحو الكواكب، ونحن لدينا عشرات الاسماء التي تدعي استبصار الغيب، وتجد من يرحب بها، ويهلل لوجودها، برغم ان كذبها واضح كما الشمس، وهؤلاء ليسوا من طبقة الفلكيين الذين يربطون الاحداث بالنجوم ويطلقون التوقعات، بل هم من طبقة تدعي الاتصال بكائنات عليا، او لديها فتوحات تجعلها قادرة على معرفة ماذا سيحدث في الغد، على مستوى أنظمة الحكم، والدول، والشعوب، ومآلات البشرية.
هل يعمل هؤلاء بشكل ذاتي، أم تتم إدارتهم من جانب آجهزة أمنية، وجهات مختلفة، لتضليل عامة الناس، وادامة الجهل، وتغييب العقل، في منطقة مبتلاة بكل شيء، ولن تنهض بهذه الطريقة التي تقود الى نهايات معروفة، من حيث انتاج اجيال جاهلة، اضافة الى ما نراه من جهل عام، وغياب للحياة، والتنمية، والتعليم، وتفشي الاضطهاد والفقر والبطالة والتجاوز على الحقوق.
ربما هكذا قصة ليست مهمة في نظر البعض، لكنها مهمة حقا، لأنها تؤشر على مدى الانحطاط السائد، بين الشعوب، في ظل تراجع إمكانات نهضتها مجددا يوما بعد يوم في هذا الزمن.
العقدة ليست عند من يكذب.. العقدة عند من يصدق.