أحد أكثر صانعي الأفلام تأثيرا ورمزية، وصاحب رؤية حداثية، وما بعد الحداثة، أعادت كتابة قواعد الفيلم السينمائي.
أسهمت أعماله في تجديد شكل الأعمال السينمائية متسلحا بالجرأة، وكثيرا ما استعان بأفلامه بالفلسفتين الوجودية والماركسية فكان أكثر صانعي أفلام الموجة الجديدة تحررا.
كان أسلوبه السينمائي متفردا ترك أثره على مخرجين آخرين من وزن كوينتين تارانتينو ومارتن سكورسيزي.
كان جان لوك غودار، المولود عام 1930 في باريس لأبوين سويسريين- فرنسيين، أكثر المخرجين حيوية واستفزازا في أوروبا وخارجها، درس في جامعة السوربون في باريس، وأثناء دراسته الجامعية انضم إلى مجموعة هواة سينما فرنسيين ضمت فرنسوا تريفو، جاك ريفيت وإريك رومير، وحين تأسست المجلة المؤثرة "كراسات السينما" عام 1951 كان غودار من كتابها الأوائل.
قام غودار، أثناء عمله في بناء سد عام 1953 بتصوير فيلم وثائقي حول عملية البناء ليكون هذا الفيلم البداية لتصوير عدد من الأفلام القصيرة توجها عام 1958 بفيلمه القصير "شارلوت وابنها جول" الذي حاز بفضله على الشهرة وبدأ يلفت الانتباه إليه.
وفي نفس الوقت استمر غودار بكتابته النقدية وأصبح أحد أهم مؤيدي الموجة الجديدة.
تأثر غودار بالمخرج الشهير أورسون ويلز وفيلمه "لمسة من الشر" فقرر عندها أن يجلس خلف الكاميرا، وكان ذلك عام 1960 ليقدم فيلمه الطويل الأول "منقطع الأنفاس" الجديد في أسلوبه والمثير في ذات الوقت، والذي تألق فيه بطلا الفيلم، جان سيبرغ وجان بول بيلموندو، عن قصة المخرج الشهير فرانسوا تروفو.
ورأى النقاد أن الفيلم قدم طريقة جديدة غير معتادة، مع تحرك الكاميرا باستمرار، وكان المونتاج سريعا وجريئا، وظف الفيلم العديد من التقنيات المستحدثة في المونتاج، فيما كان السيناريو شبه مرتجل.
حاز الفيلم على إعجاب النقاد والجمهور في فرنسا وفي شتى أنحاء العالم، ووصف غودار في إحدى المرات الفيلم بأنه "يتميز بكل ما صنعته السينما، فتيات وعصابات وسيارات، أبرز الفيلم كل هذا ووضع حدا نهائيا للأسلوب القديم".
واصل تقديم أفلام ضمن الموجة الجديدة، فأخرج مجموعة ثرية من الأفلام المؤثرة في ستينيات القرن الماضي من بينها "الازدراء" و"عصبة الغرباء" و"ألفافيل" و"بييرو المجنون" و"مذكر مؤنث".
وكانت بداية اقتحامه عالم السياسة عبر الفن حين أخرج فيلم "الجندي الصغير"، على الرغم من حظر الفيلم حتى عام 1963 بسبب تصويره للتعذيب كعقوبة تفرضها الحكومة الفرنسية، ودار الفيلم حول حرب التحرير الجزائرية.
طغت السياسة على أفلامه فيما بعد، وبدأ يميل للرسالة السياسية الواضحة، وظهر اهتمامه بالأيديولوجية الماوية، فكون مجموعة السينمائيين الاشتراكية، وأنتج أفلاما قصيرة عبرت عن وجهة نظره السياسية. وبدا وكأنه قد استسلم في تلك الفترة للأفلام السياسية والتجريبية، وبقيت أفلامه كذلك حتى عام 1980 حين عاد من جديد لعمل أفلام تقليدية.
ضم فريق عمله في البدايات عارضة الأزياء الدنماركية آنا كارينا التي تزوجها عام 1961، وكانت نجمة أعماله في سلسلة من أكثر أفلامه نجاحا.
لعبت آنا كارينا دور راقصة في ملهى ليلي تريد إنجاب طفل في فيلم "المرأة هي المرأة" عام 1961، كما لعبت دور سيدة باريسية شابة في فيلم "حياتي التي سأعيشها" عام 1962، فضلا عن دورها كعضو عصابة في فيلم "عصابة الغرباء" عام 1965.
ومن شدة تأثره بهذا الفيلم أطلق المخرج تارانتينو على شركة الإنتاج الخاصة به اسم "عصابة غرباء"، في إشارة إلى العنوان الفرنسي للفيلم، وقال مرة إن غودار كان "مؤثرا جدا" بالنسبة له كمخرج. وأضاف: "غودار هو من علمني المتعة والحرية وفرحة كسر القواعد... أعتبر غودار هو السينما مثل بوب ديلان في مجال الموسيقى".
ووصف المخرج الشهير سكورسيزي فيلم "الازدراء" الذي أخرجه غودار عام 1963، ولعبت بطولته بريجيت باردو، بأنه واحد من عشرة أفلام مفضلة له. وكتب في عام 2014 أنه "أحد أكثر الأفلام إثارة في عصره"، وأن غودار كان "أعظم فناني السينما المعاصرين".
مزجت قصص غودار أيضا الزمان والمكان، الأمر الذي أدى إلى تغيير فكرة السرد الثابت في العمل الفني، وقال ذات مرة: "لا بد أن تتكون القصة من بداية ووسط ونهاية، ولكن ليس بالضرورة بهذا الترتيب".
فيما تصدرت مسرحيته المثيرة للجدل "السلام عليك يا مريم" عناوين الصحف عندما انتقدها البابا يوحنا بولس الثاني في عام 1985.
وكان غودار الاستفزازي شخصية مهمة أيضا بالنسبة إلى اليسار الفرنسي.
أحب غودار قضية فلسطين باعتبارها جزءا من حركات التحرر العالمية التي تسعى لتحقيق العدالة والتحرر والمساواة. كان دائما يحمل الكاميرا ويتواجد بين صفوف الثوار في أماكن متقدمة على الجبهة مما جعله عرضة للاتهام بـ"معاداة السامية" لوقوفه إلى جانب الفلسطينيين.
وفيما بعد سيخرج فيلما بعنوان "إيسي غيه آيور" مع شريكة حياته آن ماري مييفيل، أثار ضجة كبيرة، إذ شبه فيه اليهود بالنازيين.
أخرج غودار نحو 100 فيلم، كان آخرها عام 2018، تحت عنوان "كتاب الصورة" وكان الجزء الخاص بالعالم العربي الأكثر بروزا وقوة في الفيلم، فغودار الذي صور عام 1970 فيلما لم يكمله قط، داخل معسكرات الفدائيين الفلسطينيين في الأردن، يتهم هنا الغرب بعدم فهم تلك المنطقة من العالم قائلا: "العالم العربي يوجد كعالم قائم بذاته.. الغرب لم يفهمه أبدا"، وسأل بطريقته: "هل يمكن أن يتكلم العرب؟".
حصل غودار على جائزة أوسكار الفخرية عام 2011 عن مجمل مسيرته الفنية، وفي عام 2018 منحه مهرجان كان السينمائي سعفة ذهبية خاصة عن مجمل أعماله ولم يحضر لتسلمها، كما لم يحضر لتسلم جائزة لجنة التحكيم التي حصل عليها عام 2014 عن فيلمه "أديو أو لانغاج".
وبعد مسيرة فنية شيقة ومثيرة ومعاناة مع المرض قالت عائلته في بيان قبل أيام قليلة إن غودار توفي "بسلام في منزله" عن 91 عاما، وأضافوا: "لن تقام مراسم جنازة رسمية، سوف يحرق جثمانه".
استعان المخرج غودار بمساعدة قانونية في سويسرا كي ينهي حياته بشكل طوعي بعد أن عانى من أمراض متعددة شلت حياته، وتسمح سويسرا بممارسة "القتل الرحيم" ويجيز القانون السويسري استخدامه في حالات معينة.
ونعاه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، قائلا إن غودار كان "يتمتع برؤية عبقرية". وأضاف ماكرون في تغريدة: "كان أشبه بطيف في السينما الفرنسية، ثم أصبح أستاذا لها".
وقال وزير الثقافة الفرنسي السابق جاك لانغ: "ملأ السينما بالشعر والفلسفة. بصيرته الحادة والفريدة جعلتنا نرى ما نعجز عن رؤيته".
وكان من بين الذين كتبوا كلمة لتكريمه الممثل أنطونيو بانديراس الذي قال: "أشكرك مسيو غودار لتوسيع آفاق السينما".
وقال الممثل الفرنسي الشهير آلان ديلون: "إن صفحة في تاريخ السينما طُويت... شكرا جان لوك على الذكريات الجميلة التي تركتها لنا".
ووصفه المدير السابق لمهرجان كان، جيل جاكوب بأنه "بيكاسو السينما" وكان "سابقا لعصره". واعتبر أن "السينما العالمية تيتمت برحيله".
نسف غودار القواعد السينمائية التقليدية بأفلامه المبتكرة، وبوفاته، يطوى فصل في تاريخ السينما علقت منه في الذاكرة مشاهد شهيرة لا تنسى من أفلامه، فنان ذو مزاج رومانسي وتجريدي، مبتكر جمال لا مثيل له، عبقري في الاستفزاز ومدمر للذات، رحل وترك خلفه تلاميذ أصبحوا أيقونات في الإخراج السينمائي.