قضايا وآراء

الجيش التونسي ومفترق الطرق.. "المدنية أو الفوضى"

1300x600

الحكم في حقيقته تكليف من الشعب لفرد أو مجموعة لتدير الشأن العام حتى يعيش الشعب في رخاء، تكليف يخضع إلى معايير عدة أهمها العقد الاجتماعي والإنتاج وما يتمخض عنهما من مفاهيم للحرية والثقافة والأمن، ولذا ولاستبيان المشهد السياسي في تونس الحالي ولاستيعاب مخلفات ما طبع في العقل التونسي من فهم للواقع والتحديات وحتى نستنبط حلولا تحيد بالدولة عن طريق الفوضى ينبغي التوقف قليل لتأمل عقود الماضي التي واقعنا حصيلتها.


بداية على كل سياسي أن يعي أن "كل قلق يمس من أمن وحرية الشعب دفع حتمي نحو الانفجار الاجتماعي، ولو بعد حين"، حتمية تتماهى مع القاعدة الفيزيائية "لكل فعل ردة فعل".


فمن المطلوب بل من الواجب سرد المحطات الكبرى التي مرت بها تونس قبيل الاستقلال إلى هذا اليوم من تحولات سياسية وتحديات اجتماعية واقتصادية وثقافية، داخلية وخارجية، فلا يمكن بلورة تصور واضح للخروج بتونس من أزمتها دون طرح حلول قابلة التنزيل تفي بتحديات الواقع بنظرة ثاقبة عبر تاريخ البلد، فالحل النظري الذي لا يمت برابط للواقع وتحدياته في علاقة بتطلعات الشعب لن ينتج إلا سرابا فخرابا.


عرفت دولة "الأمين باي" قبل الاستقلال عقدا اجتماعيا يقبل بحرية التعبير والتمثيل السياسي والعمل النقابي، فكانت حكومة "الطاهر بن عمار" 54-56 مكونة من الأحزاب السياسية التي تمثل الواقع حيناه، لكن سرعان ما انقلب الفضاء من فضاء التعددية السياسية إلى فضاء حكم الحزب الواحد سنة 56 مع "الزعيم" الحبيب بورقيبة، ثم، وبعد الانقلاب على الباي، وضع عقد اجتماعي ظاهره يحمل مفهوم الجمهورية والتداول السلمي على السلطة وحقيقته حكم الفرد المطلق، فسرعان ما انقضت السلطة على المنافسين السياسيين مثل الحركة اليوسفية 56 إلى 61 والشرايطي 62 والحزب الشيوعي 68 وسعت إلى التضييق على النفس الديني بعد إغلاق جامعة الزيتونة ومنع التعدد 56 إلى منع الصيام 62، وغدى الحزب الدولة والدولة الحزب.

 

اقرأ أيضا الجزء الأول: فرصة أخرى أمام قيادات الجيش التونسي (1)

وبعد إقرار الرئاسة مدى الحياة سنة 74 انتقلت الدولة من دولة الحزب إلى دولة الفرد، وبلغ الإصرار على عدم إرادة تطوير المشهد السياسي التعددي أقصاه، فرفض المخالف وشيطن، واحتلت مقولة "الزعيم المجاهد الأكبر" المشهد: "الشعب التونسي لم يبلغ بعد مرحلة الرشد حتى يتمتع بالتعددية، فلا تعددية الا في ذات الحزب الواحد" ، ففتح باب المحسوبية والفساد على مصرعيه.


ومع تدهور حالة "بورقيبة" الصحية وتقدم سنه واحتدام الصراع لخلافته ، نشبت أزمات كبرى سياسية واقتصادية واجتماعية منها: الوحدة مع ليبيا 74، إضراب الاتحاد العام التونسي للشغل 78، أحداث قفصة سنة 79، محاكمات الإسلاميين وتحجير الحجاب 81، أحداث الخبز 84، انتهت إلى التنافر بين السلطة والشعب ثم إلى الطلاق بانقلاب 87، إذ في الحكم الفردي "قوة الدولة من قوة الفرد".


عمل بن علي على تدجين الحزب الاشتراكي الدستوري فخلطه وضعفه وعوضه بالتجمع الدستوري الديمقراطي، واستدرج المعارضين إلى "ميثاق وطني" ليغلق بعده أبواب التعددية السياسية وحرية التعبير، وليعود ليثبت مقولة بورقيبة "الشعب لم يبلغ الرشد بعد".


ثبت قائد التحول سياسة الفرد الواحد ثم العائلة لاحقا، فطارد معارضيه وصنف من لم يصفق له في "محور الشر"، ودفع إلى استئصاله وخاصة حركة النهضة ومناصريها، وعرفت تونس عشرية انتهكت فيها كل معاني الكرامة الانسانية، بيع فيها وهم الأمن مقابل الحرية، والخنوع مقابل السجن، وغرس النظام الخوف فأرعب، حتى انعدمت الثقة بين المواطنين فيما بينهم وبين مؤسسات الدولة، عوامل أدت إلى التنافر المتبادل فالكره حتى تحول المخالف المقاوم في المخيال التونسي عدوا فغولا.


البرنامج السياسي البورقيبي كان اجتماعيا اختزالا: "التعليم والصحة والقضاء على العروشية"، أما الإدارة السياسية فكانت قائمة على مفهوم الأب الذي لا يخرف والأبناء الذين لا يكبرون، ولذا لم يجد "الأب الزعيم" بورقيبة أي حرج في التنقل من حكم الحزب إلى الفرد إلى القمع إلى الاعتراف بإمكانية الانتقال إلى التعددية الحزبية ليعود آخر حياته إلى القمع الأمني.


والأكيد أن بورقيبة لم يكن له تصور وبرنامج بتاتا ذا منوال اقتصادي واضح وواعد، جرب كل متاح، فبينما استمر إبان حكمه 56 في السياسة الاقتصادية التي وجدها، انتقل في يوم وليلة مع "بن صالح" إلى التعاضد 6269، الذي كاد يضع تونس على حافة الإفلاس، ثم ليأتي "الهادي نويرة" بالليبرالية الاقتصادية والانفتاح على الغرب، وليتناسى "محمد مزالي" التوازن الاقتصادي الذي وضعه سابقه في ظل صراع سياسي مقيت لتجد البلاد نفسها مرة أخرى على حافة الإفلاس 84.


تابع بن علي نفس المشوار الاقتصادي، لكنه سنة 94 انخرط في اتفاقية التجارة العالمية التي حولت الاقتصاد التونسي من اقتصاد متنوع إلى اقتصاد يقوم على الخدمات، فقضى بذلك على أغلب القطاعات الانتاجية الأخرى، واستوجب هذا الانخراط تغيير منهج التعليم، وبدأت رحلة تونس نحو الموت البطيء.


لم تنجح الاتفاقية في تحقيق غايتها لاستشراء الفساد في كل القطاعات والمؤسسات، Epidemie، فتناقص الإنتاج وكثرت البطالة ما دفع الشركاء "أصحاب رأس المال الخارجي" إلى الضغط والبحث عن بديل يحمي مصالحهم، فتعاضد الغضب الشعبي، الاجتماعي والسياسي، مع الإرادة الخارجية وتوج باستنفار ولافتة "Degage" فانهارت المنظومة يوم 14 جانفي.


وطد النظامان حكمهما تحت سطوة العصا الغليظة بالمحسوبية والتعامل الكيفي مع الفساد فقنناه، وتركا إرثا سليبا عميقا، أثر مباشرة في الفعل السياسي واستقرار البلاد بعد سقوط النظام النوفمبري، إذ اعتقد الشعب الذي طلق الخوف جازما أنه ما إن طرد الدكتاتور واسترجع عزته فتحت له أبواب الرخاء.
لكن الحلم كان كابوسا، فلم يكن الشعب ولا المؤسسات ولا السياسيون بمختلف مشاربهم على موعد مع التاريخ، ناهيك عن الصراعات الإقليمية والدولية.


فإرساء الحكم المدني التشاركي يحتاج إلى مفاهيم وآليات جديدة بعيدة كل البعد عن المفاهيم السائدة، الأمر الذي يفرض سجالات بين البناء الجديد المنشود وبين محاولات العودة إلى الحكم المطلق.
النزال الأول بين الخيارين كان في ما أطلق عليه "العشرية السوداء"، حينها تغلب البحث عن حلول سلمية على التصفيات والتشفي، وفاز التعايش على الاقصاء، وتحلى الشعب بالصبر وروح التسامح، لطبيعة جينات التونسي ADN.

 

اقرأ أيضا الجزء الثاني: الجيش التونسي بين الواقع والمنشود (2)

ولقد أبدع السياسيون، في درس سيحفظه التاريخ، حين أرسوا عقدا اجتماعيا "دستور 14"، يقوم على توافقات شتى رغم ما فيه من سلبيات، لتستمر الدولة ولا تقع في الفوضى، والحقيقة ألا خيار غيره، فعصر الاقصاء قد أفل، ولم يبق إلا السقوط في الفوضى أو البحث في محاولات ومخرجات سلمية عن صيغ توافقات ولو هزيلة ليتغلب السلم على الاقتتال، حتى يتم إرساء هوية تونسية تشاركية جديدة ومطلوبة.


لكن غياب المشاريع الكبرى واستفحال البطالة وتغلب ثقافة التواكل على ثقافة الابداع وغياب ثقافة الانتقال الديمقراطي، "مرحلة تتقدم فيها روح البناء الجماعي والإنتاج على المطلبية الفردية"، إضافة إلى عدم امتلاك الخبرة ولا الرؤيا الواضحة لمرحلة ما بعد "الدكتاتورية" والاضرابات والحرب في ليبيا وأزمة الكورونا، جعلت تنزيل المأمول إلى الواقع أمرا بعيد المنال، وليكسب مشروع الردة شوطا جديدا بانقلاب 25 جويلية.


لم يخرج السلوك السياسي بعد 14 جانفي على المنتظر والمعهود، ضعف وخوف وكثرة التقلبات بل تكيف مع الواقع ولم يدفع إلى التغيير، حتى بات الشعب يرجو عودة الدكتاتور فتعفن الفضاء السياسي، فعادة ما يغلب على الدهماء الاطمئنان إلى ما اصطلحوا عليه أنه أمن ولو كانوا عبيدا من المغامرة في المجهول لأجل حريتهم وكرامتهم، كل ذلك تحت رعاية ودعم من الإعلام والإدارة والنقابة والمجتمع المدني رافضين بالأساس التواجد الإسلامي.


أما القوى الخارجية الداعمة للثورة لم تجد في حركة النهضة الحزب المنظم والقوي شريكا يستطيع الحفاظ على مصالحها، وكل المؤشرات تدل على أنها أعطت الضوء الأخضر للانقلاب ودعمته باحتشام ومازالت، وما السكوت الأخير عن قوارب الموت نحو أوروبا إلا خير دليل ناهيك عن موقف وكالة "فيتش رايتنغ" الأخير، أما القوى التي ناهضت الثورة لم تكن تدفع إلى العودة للدكتاتورية، فتلك ليست غايتها، بل تدفع دفعا لتحل الفوضى في تونس.


الأكيد أن الوضع العام في تونس لم يعد يتحمل استمرار حكم قيس سعيد وباتت أيامه معدودة، إذ لا علاقة له بالسياسة، فقد أفسد ما أصلح وزاد البلد تأزما داخليا وخارجيا.


ولذا فمن المنطقي والواجب أن يسأل كل تونسي، من أغلق البرلمان بدبابته يوم الانقلاب بحجة الدفاع عن الوطن، إلى أين يسير الوطن؟ وهل إلى التعايش والقبول بالآخر من طريق؟


الكل متأكد أن السيناريو الذي قام عليه الانقلاب سقط ليلتها، والكل يعلم أن قيسا تلاعب بالكل، والكل يعلم ألا عودة إلى الوراء ولا استمرار على ما نحن عليه، وأن ذريعة الأمر الواقع لم تعد تصلح، وما لبنان عنا ببعيد؟


الأكيد أن المؤسسة العسكرية بعد 14 جانفي تحصلت على معدات عسكرية مهمة وعلا شأنها وأصبحت لها قدم في إدارة الشأن العام، وهي مع قيس أقرب إلى سدة الحكم من أي وقت مضى، فلئن كانت تحصلت في "العشرية السوداء" على مكانها الطبيعي في دولة مدنية، فهل هي اليوم تسمع وتطيع ولا رأي لها أم تطرح نفسها بديلا رغم الاكراهات والتحديات والمطامع ونقص الخبرة لإدارة البلاد؟


الحكم محنة يفضح من يطلبه، والعودة إلى مقايضة الحرية بالخوف بات مستحيلا، وآلة التسلط والقمع أفلت بعد سقوط حائط برلين وثورة 14 جانفي، فلئن كانت مكانة الجيش عظيمة ومحفوظة في عقلية المواطن التونسي اليوم لالتزامه بمربعه، فإنه إن دخل المعترك السياسي فسيفقد عذريته حتما وينفر الشعب منه.


ولا يخفى في أبجديات السياسة أن العالم بعد سقوط الاتحاد السوفياتي 89 لم يعد يقبل حكم الجيش أو الأمن أو أي مؤسسة تدير شأن البلاد وحدها دون الأخرى، بل يفضل الحكم التشاركي عن طريق الاقتراع وفصل السلط.


نعم، يحتاج جيشنا إلى نهوض إيجابي منضبط ومنظم من إدارة ذات ثقافة تنظيمية سليمة وجودة عالية بمعاير عالية، يحتاجها الجيش وتحتاجها كل مؤسسات الدولة، فالشعب ليس عسكرا والوطن ليس ثكنة أين تسير الأمور فيها وفق نواميس منظمة ومنظمة، ولئن كانت الثكنة تحمي سكانها من مرض معد ينتشر في خارج أسوارها، فالأكيد أنها ستصاب بالعدوى إن هي انتشرت خارج حماها، فالعدوى تنشر المرض ولا تنفع الصحة.


نحتاج لبلدنا هندسة تربوية وتعليمية وثقافية تعيد استخراج النواة التونسية التي سيقوم عليها الاقتصاد والإنتاج وتتقدم بها التنمية. هندسة تستمد قوتها أساسا من القبول بالآخر وحرية التعبير والتداول السلمي على السلطة. أما البناء الجليدي والواقع الوهمي لن ينتهي إلا لهدف سراب، سقوطه أقرب من استمراره.
هل كانت الأحزاب وخاصة حركة النهضة العائق أمام مؤسسات الدولة ومنها الجيش ليأخذ كل مكانه الطبيعي في دولة مدنية؟ أم أن مستقبل تونس في ماضيها؟


أي الواقعين كان أقرب في الانخراط في صنع تاريخ مشرف في العالم، أفي "العشرية السوداء" أم مع "قيس سعيد أو بن علي".


الخوف كل الخوف أن تجد تونس نفسها تغامر في تجربة مع المحور الصيني الروسي الإيراني من حيث لا تعلم، وتونس تقع جغرافيا في قلب البحر الأبيض المتوسط وعضو في "الأفريكوم" وسياستها الاقتصادية مرتبطة بالعالم الليبرالي، فهل في التغيرات الجيوسياسية في العالم ما يعطي أملا في الحكم التسلطي أو الفردي؟


القفز من الديكتاتورية إلى الديمقراطية يستوجب توافقات وصبر ليدوم، أما القفز من الحكم التشاركي إلى التسلطي فهو سريع ومريق للدماء ولا يدوم.


إن أزمة تونس الإنتاج وبدون القبول بالآخر والصبر والتعايش فالفوضى مآلنا، ولذا فتونس في حاجة إلى حوار وطني شامل يجمع ولا يقصي.