الكرسي في حياتنا العربية له سحر خاص بحيث تبدأ معه الحياة وربما تنتهي بعد الترجل أو السقوط عنه، وأعني هنا بالضرورة كرسي السلطة أياً كان شكله أو رائحته.
إشكاليتنا العاطفية في الوطن العربي مع الكرسي لا مثيل لها بين شتى الأمم الأخرى وعلى مر تاريخنا الطويل قلة هم الذين نعموا برغد العيش بعد تركهم إياه مقارنة بغيرنا من الأمم، في حياتنا لا يمثل ذلك لحظة عابرة وانما تصبح الحياة كلها عبارة عن معركة للحصول عليه ومن ثم للدفاع عنه حتى الرمق الأخير فلا مهرب بالنسبة لصاحبه منه إلا إليه.
ثمة معضلة في تاريخنا جعلت منه ماء الحياة وسر الوجود، وجعلت من أولئك المبعدين الذين لا حظ لهم فيه يعانون من الانفصام النفسي وازدواج الشخصية تجاه الجالسين عليه ما بين لحظة جلوسهم عليه ولحظة سقوطهم عنه.
إن مأساة الأمة في ذلك الاختزال لطاقتها وفكرها في ذلك الكرسي والجالس عليه وما عدا ذلك فأصفار تتلو أصفارا.
لقد استطعنا في مخالفة صريحة للزمن وللمعتقد ان نفك الارتباط بين الكرسي ذاته ومسؤولية الجالس والمتربع عليه والتي اقترن بها تاريخنا الأول وأضفنا بديلاً عن ذلك الشرط التلازمي ثنائية أخرى هي في الكرسي وعصمة صاحبه أو الجالس عليه فلا وجود للآخرين على أطرافه أو من حواليه إلا بشروط قد تثقل من كاهل الإنسانية وتصيب الكرامة في مقتل. حتى في عالم اليوم المتوهج والذى لا يعرف أسواراً أو أسلاكاً شائكة لا تزال عقليتنا المتبلدة تعربد يمنة ويسرة في أرجاء التاريخ داعية لعودة المستبد العادل أو القائد الملهم أو للزعيم مدى الحياة حيث يبقى الكرسي هو مصدر الخلاص للامة من أزماتها ولا يمكن ان يكون رمزاً لإرادة الأمة أو أن يتحول الى نظام آخر لا يظهر القوة والجبروت والبطش فتعودت الأمة دائماً ان تضحي ببعض أطرافها من أجل ان يبقى سليماً وإن كان يئن من مرض عضال. لقد فقدت الشعوب قدرتها وفحولتها السابقة حيث تداخلت الأمور بشكل لا يمكن معه التفرقة بين ما هو داخلي وما هو خارجي أو ما هو خاص أو عام وكان لزاماً على الصغار أن يتعايشوا مع ذلك دون تأثير أو إرادة وتظل خصوصية الذهنية العربية مستمرة فى الرنو الى الكرسي ومن ثم الحصول عليه وإقامة تلك العلاقة الشبقية بحيث يصبح التاريخ كله مختزلاً بين الجلوس عليه والرحيل عنه، أي اجتراء على التاريـخ بعد ذلك، فلا مجال لإظهار المواهب أو للشعور بالثقة بعيداً عن إغواء كرسي السلطة.
إننا أمة بحاجة الى علاج يضع فواصل وخطوطا واضحة بين الماضي والحاضر والأصل والصورة بين الكرسي كسلطة وجالسة كمسؤول، فالفرق الواضح بين نظرتنا لكرسي السلطة ونظرة غيرنا من شعوب العالم المتقدم كونه بالنسبة لنا يمثل اختزالا للتاريخ فالتاريخ لدينا هو تاريخ الكرسي، وصاحبه هو من يصنع ذلك التاريخ وعلى الأمة ان تتحمل العواقب راضية مرضية وأن تصفق له ولصاحبه طالما بقي منتصبا على الكرسي فى حين انه (أي التاريخ) لدى أولئك تصنعه الشعوب وما الكرسي إلا رمز لإرادتها وليس مصدراً لها فالتعاقب عليه مستمر متى رأت إرادة الشعوب ذلك.
انه إغواء الكرسي ذلك الداء الذي افقد الأمة توازنها فنحن بحاجة الى صدمة تاريخية تجعل للسلطة في عقليتنا معنى آخر بحيث يصبح الاقتراب منها دون مواكبة لشروطها انتحارا ذاتياً وتفك ذلك الإغواء وإلا فإن الانتحار البديل قادم أكاد أرى نذره خاصة وان الكثير أصبح يستمرئ فكرة التدخل الخارجي لإنقاذنا من أنفسنا ومن براثن تخلفنا.