منحت الهيئات المنتخبة الشرعية للفصائل المسلحة، بعد أن الحقتها بمؤسسات الدولة، وبالمقابل منحت الفصائل الحماية للهيئات، فمليشيات حفتر تحمي مجلس النواب في طبرق، وفصائل طرابلس تحمي مجلس الدولة والحكومات المتعاقبة، ثم امتد نشاط الحماية إلى المؤسسات التنفيذية الأخرى، مثل المصرف المركزي وديوان المحاسبة وهيئة الرقابة الإدارية، ثم تضخمت وتمددت بعد حصولها على المال، وباتت الهيئات رهينة لدى هذه الفصائل المسلحة.
يجري هذا شرقا وغربا وجنوبا، من دون استثناء، فمجلس النواب لم يوافق على ميزانية حكومة الدبيبة لأنها لم تمنح مليشيات حفتر الأموال المطلوبة، وجزء من التكليفات للمناصب في طرابلس مخصص للفصائل المسلحة، وكذلك جزء من الاعتمادات المصرفية، حتي أصبح أمراء الفصائل من أكبر أثرياء البلاد. ولا أحد بوسعه أن يثبت أي شرعية غير التي منحتها له الهيئات المنتخبة، من دون تبعية حقيقية لهذه الهيئات.
هذا الوضع جعل المؤسسات الرسمية، المجلس الرئاسي ومجلس النواب ومجلس الدولة، بدون سلطات حقيقية، فلا يمكن لأي منها إصدار أي قرار بناء على صلاحياته القانونية، من دون موافقة الفصائل المسلحة الواقعة في نطاقه الجغرافي، وإلا فلن ينفذ وسيبقى مجرد حبر على ورق من دون أي قيمة.
ومع استمرار عجز المؤسسات الرسمية، وتآكل شرعيتها، وتغول حملة السلاح، وعجز القضاء أو تعطيله، وتوغل التدخل الخارجي، تكتمل دائرة الظلام المحيطة بالوطن، من دون بارقة أمل تلوح في الأفق لكسر هذه الدائرة والخروج إلى النهار.
استعادة الميادين هي آخر أمل لفرض التغيير، ولكن الميادين والشوارع تعود إلى هدوئها، لأن النضج السياسي لدى غالبية الناس لم يتحقق بعد،
ما الذي تريده المؤسسات الرسمية وقادتها، وهم يدركون عجزهم عن ممارسة سلطاتهم؟ ويعلمون علم اليقين أن تجديد الشرعية عبر انتخابات حرة ونزيهة، هو الخطوة الأولى للخروج من حالة الانسداد، والشروع في معالجة أزمة السلطة التنفيذية، وأزمة السلاح والفصائل المسلحة، وتغيير قيادات المؤسسات السيادية، وقبل كل هذا استعادة بعض السيادة على القرار الوطني. هاهي طبول حرب جديدة تقرع، ويعقد قادة الفصائل المسلحة الاجتماعات بشأنها بعيدا عن كل المؤسسات الرسمية، فما الذي يدفعهم للبقاء، وهم غير قادرين على منعها وإلجام الباغي، وتجريده من منصبه؟
هل تساوي امتيازات السلطة، حتى وهي شكلية من دون أي فعالية تذكر، المقامرة بمصير الوطن الذي يواصل الغرق في محيط الظلام؟
تدفع الشعوب الثمن مضاعفا يتناسب طرديا مع طول زمن الاستبداد والظلم، فعقب سقوط الاستبداد تستيقظ على حجم الكارثة، وتأخذها الدهشة من هول الميراث المتراكم عبر العقود، ومدى الجهد والوقت اللازم المطلوب لازالته، قبل النهوض بمهمة إعادة البناء بما يتلائم مع شروط العصر.
نحن في هذا الحال تقريبا، فكل يوم يمضي تترسخ الأوضاع وتزداد سوءا. تستمر هيمنة الفصائل المسلحة، ويستمر عجز المؤسسات الرسمية، وتواصل قوى الخارج ممارسة تدخلاتها، وتدير الأمم المتحدة الصراع حسب اتجاهات صراع القوى الكبرى، ولايبدو أن ثمة تغير ممكن أن يحدث في المستقبل المنظور، وهنا مكمن الخطورة، حتى الحراك الذي حمل الكثير من الآمال في مطلع يوليو، وهز الكراسي المتكلسة، انتهى فجأة مثلما بدأ فجأة.
استعادة الميادين هي آخر أمل لفرض التغيير، ولكن الميادين والشوارع تعود إلى هدوئها، لأن النضج السياسي لدى غالبية الناس لم يتحقق بعد، لابد من يغمر اليقين نفوس الناس، بأن الجموع حين تصدح بمطالب واضحة، في الشوارع والساحات، ستجبر القوى المهيمنة على الانصياع للتغيير، والرضوخ لمطالبها، حينها فقط تنكسر دائرة الظلام، ويندفع الضوء ليبددها، وتعود الفرصة مجددا ليستعيد الشعب استقلاله، وينتزع قراره من القوى الدولية المتحالفة مع السلطة المحلية.