بشهيةٍ لا مثيل لها، لا يضاهيها ربما سوى الغضب ورثاء الذات من واقعٍ متردٍ في مناحٍ عديدة (أكاد أن أقول في المجمل دون أن أكون مفرطاً في المبالغة) تلقف الكثيرون الأنباء الواردة من أمريكا عن جريمة القتل البشعة والمروعة في آنٍ معاً، التي اتهم فيها رامي هاني منير فهيم نجل نبيلة مكرم وزيرة الدولة للهجرة وشؤون المصريين في الخارج. اللافت أن هذا الخبر لم يكن طازجاً تماماً حين بلغنا، بل كان قد مر عليه قرابة الشهر، لذا لست أعلم يقيناً هل تسرب أم سُرِبَ في لعبةٍ من تصفية الحسابات التي تبدو دائرةً اليوم في ضوء فورة التسريبات والفضائح العديدة من شتى أطراف الأرض (عدا مصر لأسبابٍ بديهيةٍ ترشح دماً وبارودا بالطبع) والتي لن نفهم دوافعها و»غاطسها» والأطراف الواقفة وراءها بتلك الدرجة من اليقين، التي قد يسمح بها التاريخ إلا بعد أن يُقضى الأمر ويُبلغ الغرض، لكن شُبهة تعمد إحراج النظام من أطرافٍ داخله ليست بالبعيدة.
والحكاية وما فيها أن رامي متهمٌ بقتل زميله في العمل وصديقه، مع سبق الإصرار والترصد كما يحلو لنا أن نردد في الأفلام العربية، حيث قبع منتظراً، ثم قتلهما واحداً تلو الآخر بسكينٍ عُثر عليها في مسرح الجريمة، كما أكدت التحقيقات حتى الآن، وكل ذلك إن ثبُت عليه فقد يواجه عقوبة الإعدام؛ أما عن الدوافع لذلك فثمة تكهنات وهمهمات عن علاقةٍ من نوعٍ خاص كانت تربط رامي بأحدهما، وإن لم يثبت ذلك بعد، على الأقل على حد علمي.
ما يخُصنا كمواطنين في الأمر أنه ما أن انتشر الخبر حتى خرج علينا إعلاميو النظام، ومبررو كل المجازر والمهللون لشتى ألوان القمع، المصفقون لأنهار الدماء التي أسالها السيسي يستحضرون إنسانيتنا ويهيبون بنا أن نتعاطف مع سيدةٍ مصرية (الآن لم تعد وزيرة في نظام، بل أضحت مجرد أمٍ مصرية) تمر بظرفٍ لا أقسى منه، ولم يلبثوا أن زادوا العيار وجرعة «التعاطفات» و»الإنسانيات» قليلاً حتى تكرموا علينا بصورة الأم – الوزيرة وهي تصلي في ما يبدو أنها كنيسة. كالمتوقع تماماً، انقسم الجمهور كما يفعل دائماً بين مؤيدٍ للنظام ورجالاته ونسائه، يستجيبون لنادي التعاطف والإنسانية مع الأم المكلومة، وكثرةٍ أزعمها لا تفلح في إخفاء شماتتها في أي فضيحةٍ من أي نوعٍ قد تطال طرفاً (أو أطرافاً) للنظام لاسيما لو اشتملت على كل التوابل من قتلٍ واضطرابٍ نفسي وجنسٍ. لسنا في حاجةٍ على الإطلاق للبحث عن مبرراتٍ لموقف أنصار النظام، لكن شماتة أعدائه هي ما يحتاج لوقفةٍ وتأمل. لقد شببنا ورُبينا على قبح الشماتة، على ذمها والاستعاذة منها، فما الذي حدث؟ لا أزعم أنني أفهم دوافع هذه الظاهرة تماماً وإنما لديّ بعض التفسيرات والكثير من التساؤلات. لقد صادر السيسي المجال العام تماماً، فلا مساحة في دولته للاعتراض أو التساؤلات، ولا وسيلة لديه للتعامل مع بوادر السخط سوى بالعنف والخشونة المفرطة. لم يبق أمام الناس من متنفسٍ سوى انتظار الفرج بالصبر على جار السوء، ومنح ثقتهم كاملةً وتعليق أشواقهم للعدل على الدوائر والنوازل والمصائب، أن تفعل فعلتها فتنتقم من الباغي وتُذل من أذل. بقمعه وسحقه لكرامة الناس أخرج النظام، خاصةً السيسي أخس وأحط ما في الناس والأكثر صغاراً، ومن عجزهم وُلدت الشماتة. كيف للناس أن تتعاطف مع فتى مدللٍ مثل رامي تلقى أفضل تعليمٍ ويعيش في إحدى أجمل بقع الأرض ويعمل بوساطة أمه في شركة استثماراتٍ مرموقة تملكها سيدةٌ من أصلٍ مصري، بينما أولادهم لم يُتح لهم سوى تعليمٍ رديءٍ متردٍ، بلا وظائف كريمةٍ تستوعبهم، وبلا مستقبلٍ في غيبة العلاقات والوساطات؟ كيف لهم أن يتعاطفوا مع ابن موظفةٍ حكوميةٍ مسؤولةٍ عن المصريين بالخارج متهمٍ بالقتل في حين أنها تباسطت وتظارفت في تجمعٍ للمصريين بالخارج، في معرض إلقائها كلمة تعلمهم فيها كصغار المدارس ضرورة الوطنية وفوائدها، فهددت من ينال من سمعة مصر في الخارج من أبنائها بأن تُقطع رأسه، فهل هذا تعريفها لرعاية شؤون المغتربين؟
ولئن ثبُتت التهمة على رامي، فهل لنا أن نفهم من ذلك أن ذلك ديدن الأسرة الكريمة وأسلوبها المفضل في حل نزاعاتها؟ قطع الرؤوس والطعن بالسكاكين؟ فما بال الحوار والكلام والمحاججة وما أشبه؟ وأين كان التعاطف حين كانت آلاف الأمهات والأسر يدورون وراء أبنائهم المعتقلين من سجنٍ لآخر، يتوسلون الزيارة وينتظرون جالسين على الأرض بالساعات ريثما يسمح لهم بالزيارة؟ وأين كان مع الأمهات الثكالى المكلومات اللاتي قُتل أبناؤهن في رابعة والنهضة والتقطت صورهن إلى جوار الأكفان، وكل الأمهات اللاتي صُفي أبناؤهن؟ أم أنهن لا يحق لهن رفاهية التعاطف ولم يكن ذلك بالظرف والمحنة الإنسانيين؟
أم أنهم ليسوا بشراً؟ يقيناً هم دون المستوى من وجهة نظر النظام، فالناس طبقات، والوزيرة وابنها من طبقةٍ أخرى، أعلى، وهما ينتميان إلى النظام، فمحنتهما إنسانية، وأزمتهما حقيقية ومؤلمة، أما الباقون من أعداء النظام، من العامة والدهماء، فيكفيهم مجرد الوجود المحض، غير الإنساني، فلا يكترث بهم أحد، وحين يقضون فهم إما يستحقون ذلك، وإما أنها أحداثٌ عابرة، مجرد «أشياء تحدث»، لا يتوقف أمامها إعلامنا ولا يكترث بها ولا يستنهض «إنسانيتنا»، وحين يُقتلون من قبل جنود النظام فهو واجبٌ وعملٌ وطني بامتياز يستحق الدعم، لا خسارة بشرية مؤلمة أياً كان.
قد يعترض أحدهم بأننا «شعبٌ طيب»، ليس لنا في العنف ولم نعتد على الشماتة، ربما كنا كذلك يوماً ما، لم أعشه في الحقيقة، أما الآن فإن أي ادعاءٍ بذلك ليس إلا خداعاً للذات وتعوزه الدقة والصدق مع النفس، فنحن أسوأ من ذلك بكثير: نحنٌ شعبٌ هُزمت ثورته، تفصله أنهارٌ من الدم، نطفو على محيطٍ من السخط والكراهية والعنف، خائفون حد الفزع والموت من النظام (مهم ادعى بعضنا عكس ذلك) وعاجزون عن أي تغييرٍ حقيقي. ثم، وهو الأهم، كيف لنا أن نتعجب من شماتة الناس وخوضهم في خصوصيات أبناء المسؤولين، في حين كرّس النظام ذلك منذ الانقلاب عبر بعض إعلامييه الذين قامت برامجهم اليومية حصراً على التسريبات والفضائح والخوض في ذمم الناس وأعراضهم؟
لا شك في أن الشاب رامي مضطربٌ، وأنه يمر بأزمةٍ لا أملك على المستوى الشخصي، وبعيداً عن الجدال أو السخرية، إلا أن أشعر بالرثاء له فيها، كما أشعر بالرثاء لمن ماتا غيلةً في عمر الورود؛ أما التعاطف مع الوزيرة التي تهدد مواطني بلدها المغتربين بالقتل بمنتهى الأريحية، وثقل الظل، فإنني أجد صعوبةً فيه، كما أنني لا أستطيع أن أحاسب الناس أو ألقي باللوم عليهم لشماتتهم، ولا أن «أترفع» فأنصحهم بالترفع عنها، بل أرى فيها إدانةً لنظامٍ سحق روحهم وشوهها؛ بل إنني من نفس منطلق أنك إذا أردت أن تصنع إنساناً فلتصنع أو توفر ظروفاً إنسانية، فإنك قبل أن تعيب على الناس الشماتة وتنهاهم عنها فلتلغِ وتستبدل الظروف القهرية التي لا تترك أمامهم سواها متنفساً وتحصيلاً ملتوياً لحقوقهم المسلوبة وكرامتهم المسحوقة.
(القدس العربي اللندنية)