مقالات مختارة

في استقبال اللاجئين وبيتنا الزجاجي

1300x600

لكونها أول حرب على مثل هذا النطاق العظيم في وسط القارة الأوروبية منذ الحرب العالمية الثانية، تشكّل حرب الغزو الروسي لأوكرانيا تجربة ذات دلالات هامة في ما يتعلّق بقضية نزوح المدنيين الجماعي وتحولّهم إلى لاجئين. وقد اعتدنا على أن نتصوّر أن قضايا النزوح بأعداد غفيرة لا تخصّ سوى بلدان الجنوب العالمي بينما تقتصر طلبات اللجوء في مناطق الشمال على أنفار من الهاربين من القمع السياسي ومعظمهم قادم من روسيا، أكثر بلدان الشمال تضييقاً على الحريات. طبعاً، شهدت أوروبا حرباً في جنوب شرقها عند التهاب منطقة البلقان في العقد الأخير من القرن المنصرم، لكنها اضمحلت من الذاكرة بالرغم من أنها ولّدت أزمة نزوح نتج عنها عدد من اللاجئين يفوق ما نجم عن احتلال العراق في بداية القرن الجديد.

وقد انطبعت الأذهان في السنوات الأخيرة في الدائرة الكبرى التي تشمل أوروبا والشرق الأوسط بأزمة النزوح السوري التي بدأت تتفاقم منذ عشر سنوات، وقد بلغ عدد اللاجئين السوريين ما يناهز سبعة ملايين (6.8)، بينما انطبعت الأذهان في أمريكا الجنوبية بأزمة النزوح من فنزويلا التي بلغت رقماً قريباً من الرقم السوري (ستة ملايين) وذلك بلا حرب، بل بمجرّد ضغط الظروف المعيشية. إنها أرقام متواضعة مقارنة بعدد النازحين في أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية الذي بلغ ما بين أربعين وستين مليوناً من البشر، بيد أن تلك كانت أعظم حرب شهدها التاريخ إلى يومنا، وعلى الأرجح إلى الأبد، أو نتمنّى ذلك إذ إن حرباً عالمية بالأسلحة الحديثة من شأنها أن تُفني البشرية جمعاء.

لذا فإن أزمة النزوح التي نجمت عن الغزو الروسي لأوكرانيا والتي أدّت إلى خروج ما يناهز سبعة ملايين من الأوكرانيين، عاد منهم حوالي المليونين بحيث استقرّ عدد اللاجئين الأوكرانيين الحالي على ما يناهز خمسة ملايين، هذه الأزمة إنما تسمح لنا بإعادة النظر في بعض ما تكوّن لدينا من تصوّرات. فقد تكاثرت التعليقات التي أدانت موقف الأوروبيين حيال النزوح السوري، معزية إياه إلى فرق بين أخلاقنا وأخلاقهم ومُدينة ما رأت فيه عنصرية أوروبية ضد العرب والمسلمين. ولا شك في أن العنصرية ورُهاب الإسلام ظاهرتان منتشرتان في أوروبا، يعكسهما بصورة خاصة صعود أقصى اليمين الذي يتجلّى في حكومات كحكومة المجر أو نتائج انتخابية كالتي عرفتها فرنسا مؤخراً.

بيد أن غالبية الناس العاديين في أوروبا كرماء الأخلاق، أو لا يقلّون كرماً عن الناس العاديين في بلداننا، كما أن الكنائس، ولاسيما الكنيسة الكاثوليكية، تشدّد على واجب احتضان المحتاجين بصرف النظر عن دينهم ولونهم. والحالة تختلف كثيراً بين بلد أوروبي وآخر بحيث إن وضع كافة الدول الأوروبية في سلّة واحدة إنما هو من الإجحاف. فقد استقبلت ألمانيا ما يناهز مليون لاجئ سوري، استقرّ منهم أكثر من 600 ألف، وهو عدد كبير حتى إذا قورن بتعداد سكان ألمانيا الذي يبلغ 83 مليوناً. فعلى سبيل المثال والمقارنة، لم تستقبل مصر، التي يزيد عدد سكانها عن مئة مليون سوى 133 ألف لاجئ سوري، أي ما يقترب من عدد اللاجئين السوريين الذين استقبلتهم السويد (115 ألفاً) التي لا يزيد عدد سكانها عن عشرة ملايين ونصف المليون!

والحقيقة أن «كرم أخلاقنا» وتقاليد «الضيافة» التي نتغنّى بها لا تنطبق سوى على بلدان الجوار التي لا مُحال من أن ينزح إليها النازحون. فقد نزح السوريون إلى تركيا (3.7 من الملايين، وهو عدد عظيم من الطبيعي أن يولّد توتّرات على خلفية الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها تركيا) ولبنان (850 ألفاً حسب الرقم الرسمي، وهي النسبة الأعلى قياساً بعدد السكان إذ تناهز 12,5 في المئة من عدد السكان الإجمالي حسب أحدث التقديرات السكانية، بينما يشكّل اللاجئون السوريون في تركيا 4,4 في المئة من سكانها) والأردن (668 ألفاً) والعراق (346 ألفاً). هذا وقد تكرّرت ظاهرة بلدان الجوار الطبيعية مع النازحين الأوكرانيين، إذ إن ما يقارب ربع عددهم استقرّ في بولندا. أما ألمانيا فقد استقبلت منهم 780 ألفاً مؤكدة كونها أكثر ضيافة من كبرى الدول الأوروبية الأخرى كبريطانيا (أسوأها على الإطلاق) أو فرنسا مهما كان صنف النازحين.

أما خارج بلدان الجوار وعودةً إلى اللاجئين السوريين، فإن «الضيافة العربية» قد تبخّرت، إذ يأتي السودان (93,5 ألف) بعد مصر، ولا وجود لأي دولة عربية أخرى بعد الدول التي تمّ ذكرها بين الدول العشرين التي تستقبل أكبر أعداد من اللاجئين السورين. ويكفي أن ننظر إلى ما يتعرّض له الأفارقة السود في بلدان شمال أفريقيا من مضايقات عنصرية، بل حتى القادمين إلى مصر من السودان «الشقيق» والمجاور، أو ما يتعرض له العمال المهاجرون من جنوب آسيا أو القرن الأفريقي في المشرق العربي، أو حتى فقراء «الأشقاء» السوريين في لبنان، لندرك أن بيتنا الزجاجي لا يسمح لنا بأن نراشق الأوروبيين بالحجارة، بل علينا قبل ذلك أن نكافح العنصرية وكره الأجانب في ديارنا.

(القدس العربي)