التوازن مفهوم عميق يختصر أسباب استمرار الحياة البشرية على وجه هذا الكوكب، وله دور في العلاقات الإنسانية وكذلك استمرار الكون في عمله باتساق كامل، «والسماء رفعها ووضع الميزان».
هذا التوازن هو الذي يجعل كل شيء في هذا الكون يعمل في محيطه بدون أن يحدث ما يلغي وجوده: «لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر، ولا الليل سابق النهار، وكلٌّ في فلك يسبحون». هذا التوازن الذي يحكم مسار الكون والوجود، ينطبق كذلك على التعايش بين البشر، وبدونه يتحول العالم إلى جحيم لا يطاق من النزاع على البقاء. وما العلاقات بين الدول والمعاهدات الدولية والمواثيق، إلا وسائل لإبقاء العلاقات الدولية مستقرة ومؤسسة على توازن سياسي واقتصادي، يمنع الخلاف المؤدي للصراع الدموي، ويشجع الحوار حول القضايا المشتركة، خصوصا المختلف بشأنها. فما إن يختل هذا التوازن حتى يهرع القوي لأكل الضعيف، خصوصا في غياب الردع الأخلاقي والديني.
مع ذلك لا تتوقف الحروب والصراعات، وما يزال منطق القوة هو الذي يحكم العالم. وهذه حقيقة تعيها الدول خصوصا القوية منها. فمثلا في الوضع الطبيعي المحكوم بالتوازن، لا تستطيع «إسرائيل» احتلال فلسطين فترة طويلة. ولكن هذا الوضع لم يُسمح له بالاستمرار. ولذلك تصر الولايات المتحدة الأمريكية على منع التوازن الطبيعي بين الاحتلال والعالم العربي، وتصر على ضمان تفوق إسرائيلي عسكري دائم. هذه السياسة الأمريكية حالت حتى الآن دون تحرير الأرض ودحر المحتل، ولكنها لم تحقق له أمنه برغم مرور ثلاثة أرباع القرن. فالإخلال بالتوازن لا يؤدي إلى السلام أو الأمن أو الاستقرار. وإذا كانت علاقات الشرق والغرب خلال الحرب الباردة محكومة بتوازن سياسي وعسكري استمر أكثر من سبعة عقود، فقد ضعف هذا التوازن بعد سقوط الاتحاد السوفياتي قبل ثلاثة عقود. ولكن تأثير هذا التغير على التوازن الاستراتيجي كان محدودا برغم حجمه وسعته. ومن الناحية النظرية يُفترض أن يؤدي ذلك التغير إلى هيمنة غربية مطلقة، قادرة على إعادة ثقة الغربيين بأنفسهم بشكل مطلق. ولكن الواضح أن ذلك لم يتحقق لأسباب عديدة، من بينها استحالة هيمنة حضارة تفتقر للقيم الإنسانية والأخلاق ومعايير العدالة.
هناك ثلاث دوائر لفحص فاعلية التوازن في العلاقات الدولية ومدى قدرته على منع النزاعات المسلحة، تستحق المراجعة بقدر من الموضوعية:
الأولى: بعد مرور أكثر من مائة يوم على اندلاع الأزمة الأوكرانية، لم تستطع روسيا بسط سيطرتها المطلقة على أوكرانيا، البلد المجاور الذي كان يوما جزءا من الاتحاد السوفياتي، ومصدر غذائه وتصنيعه. وربما يبدو هذا مشجعا للغربيين الذين بالغ بعضهم في تقييم ميزان القوى الجديد في وسط أوروبا، ولكن أصبح واضحا أن القلق من روسيا الجديدة ما يزال قائما برغم عجزها عن إلحاق ضربة قاضية للبلد الذي استهدفته بالحرب.
يسعى عدد من الكتاب والمفكرين والسياسيين لتعميق ثقة الغرب بنفسه، من خلال التقليل من شأن الآخرين وإمكاناتهم المادية والفكرية. والهدف من ذلك وقف النزعة المتصاعدة لدى الأجيال الجديدة من الغربيين، بعدم إمكان الاستمرار في النزعة التسلطية والشعور الوهمي بالعظمة والتفوق، وضرورة العمل على محور التوازن الإيجابي في العالم، لمنع حدوث الكوارث السياسية والعسكرية. فهل كانت الحرب العالمية الثانية إلا نتيجة شعور ألمانيا الهتلرية بالعظمة الوهمية والقوة المفرطة؟ فكان على العالم تقديم أكثر من 20 مليونا من البشر لمنع صعود النازية.
هذا الغرب الساعي لاستعادة التوازن يتناسى، كعادته، الجوانب الأخلاقية والمعنوية التي تساهم في تقوية الأطراف التي قد تفتقر للإمكانات المادية البحتة من سلاح متطور وبحوث ترقى إلى الفضاء وتصنيع لا يتوقف. فحتى الآن ما يزال درس أوكرانيا غامضا ونتائجه غير حاسمة لإصدار حكم عام على حقيقة التوازن، ومدى قدرة العالم على ضبط النفس والانصياع لمنطق التسوية الوسطية، الذي يساهم الميزان العسكري في تأطيره.
الثانية: بعد مرور ثلاثة أرباع القرن، ما تزال قضية فلسطين عالقة، تستعصي على التجاهل من جهة، كما يستعصي حلها وفق ما يريد كلا الطرفين من جهة أخرى. فأهلها الأصليون يسعون لتحريرها، ويرفض قطاع كبير منهم التنازل عن شبر منها، ومحتلوها لم يستطيعوا حسمها بالكامل لصالحهم، وما يزالون يرتكبون كبريات الجرائم يوميا في إطار محاولاتهم الاحتفاظ بما ليس لهم. هنا أصبح للتوازن تجليات أخرى، لا يمثل التفوق العسكري إلا واحدا منها؛ فالطفل الفلسطيني لديه معيار مختلف عن السياسي العربي أو الغربي للموقف. فهو مدفوع بفطرته لتشكيل وعيه الخاص لمعنى التوازن. فهو يرى أن التوازن يقتضي رفض الظلم والتمسك بالحق والدفاع عن النفس والذود عن الحمى، ولديه وسائله لفرض ذلك المفهوم الخاص. بينما يرى الإسرائيلي مفاهيم أخرى للتوازن في مقدمتها التفوق العسكري، وتشمل قيم التكبر والإكراه والمبالغة في الانتقام، بالإضافة للابتزاز والتهديد وسفك الدم والتخلي عن المعايير الحضارية؛ كالأخوّة والمساواة والعدالة واحترام النفس الإنسانية. ويتناغم معه داعموه الغربيون الذين طوّعوا قيمهم التي توافقوا عليها بعد الحرب العالمية الثانية، والمواثيق التي تنظم الحرب والسلام وتؤطر لحقوق الإنسان، من أجل التماهي مع مفهوم الاحتلال ليصبح مقبولا لدى جماهيرهم، ضمن أطر ثقافتهم التي يسعون لترويجها في العالم.
التوازن هنا يتعرض للتدمير والتشويش بأنماط غير مسبوقة؛ فالقتل الإجرامي الذي يمارسه المستوطنون يتم التغاضي عنه بشكل واضح، ولا يطرح ساسة الغرب سواء في مداولاتهم السياسية مع المعنيين بالقضية مسألة امتلاك السلاح من قبل المستوطنين، أو حق السيطرة على أراضي الغير، او رفض الانصياع للقوانين الدولية، أو إخضاع سياسات التمييز ضد السكان الأصليين للمعايير الدولية، وكذلك سياسات التصنيع، وعلى رأسها تلك المرتبطة بالسلاح النووي، فهي لا تخضع لرقابة الوكالة الدولية للطاقة الذرية، بينما يصر هذا الغرب «المتحضر» على تمكين مؤسساته من رقاب المدافعين عن أرضهم وداعميهم. وهكذا، يصبح التوازن له معان وتجليات أخرى في نظر من نصّبوا أنفسهم سادة على العالم، وأخضعوا المؤسسات الدولية لمعاييرهم المستمدة من ثقافة الاستعمار والحق المطلق في الهيمنة والسيطرة والاستغلال. ومن المؤكد أن هذا التوجه لم يكتب له نجاح كاسح، فقد استطاع أطفال الحجارة فرض واقع استمر عقودا وساهم في اختراق نفسيات قطاعات غربية واسعة لتتمرد على سياسات الغرب إزاء قضية فلسطين. إن التوازن هنا تجاوز الجانب العسكري ليواجه التفوق الإسرائيلي بتفوق معنوي وأخلاقي وإنساني وسياسي.
الثالثة: منذ تأسيس منظمة الأمم المتحدة، احتدم الصراع من أجل تمكينها من ممارسة حاكمية سياسية ومعنوية في عالم ما بعد الحرب. وبذلك حدث توازن سياسي بين سكان هذا الكوكب، مدعوم عادة بقوة عسكرية رادعة. ويفترض أن الدولة الحديثة تسعى لردع مناوئيها فحسب، وتتحاشى خوض الحروب وسفك الدماء. الأمم المتحدة هي الأداة لذلك. ولكن استبدال سياسات الردع باستراتيجيات الهجوم الساحق أدى إلى تهميش المنظمة الدولية، وبذلك تركز مفهوم الردع العسكري ليمثل الجانب الأقوى في معادلات التوازن الاستراتيجي في القرن الحادي والعشرين. إنه تراجع أخلاقي وقيمي مقيت استبدل قيم الحوار الحضاري والتبادل الثقافي بلغة الموت التي دمرت أوروبا سابقا، ودفعتها للتفكير في استحداث بدائل أكثر تحضرا وسلما من لغة الصواريخ والطائرات وأسلحة الدمار الشامل. في عالم يتنكر للتعايش السلمي بين الحضارات والثقافات عبر أساليب الحوار وإعطاء العقل دورا أوسع لإدارة الصراعات، تغير مفهوم التوازن، ليصبح محصورا بما يطلق عليه «توازن الرعب». أهذا ما توصلت إليه إنسانية القرن الحادي والعشرين؟