"لم
يكن هذا الكتاب حصيلة دراسة وكتابة في زمن مُحدد، بل إن معلوماته ورؤيته وبنية مفاهيمه
تستند إلى سنوات طويلة من مسألة التطور الاجتماعي والسياسي في الشرق الأوسط المسلم
قبل انتفاضات عام 2011 بسنوات طويلة". هذا الاقتباس الذي ذكره الباحث الإيراني/أمريكي
آصف بيات، ليوضّح منهجية كتابِه ثَورة بلا ثوار: كيف نفهم الربيع العربي، والذي صدر
لأول مرّة باللغة الإنجليزية عام 2017 عن stanford university pressوترجم قبل أسابيع قليلة عن مركز دراسات الوحدة العربية/بيروت في
350 صفحة. نحاول بإيجاز إيضاح أهم الأفكار والتحليلات التي ضُمّنت في فصول هذا الكتاب
الإحدى عشر.
أخذ
الكتاب صدى مُميّزا منذ إصداره باللغة الإنجليزية، أجرى بيات عدة حوارات حول الكتاب
وأفكاره وما يُريد أن يوصله للقارئ، والمُهتمين خصوصا بتحليل الانتفاضات العربية. يحاول
آصف في مُجمل كتابه الالتفاف حول الأسباب التي أفشلت انتفاضات الربيع العربي، يكمُن
السبب الرئيسي في أن هذه الانتفاضات لم تُكمل مشوارها بسبب عدم وجود نظريّة ثورية تقودها،
كذلك افتقدت هذه الثورة لوجوهٍ مُنظّرة لكيفية إجراء عملية تغييري أكان ثوريا/إصلاحيا،
بل هي كانت وجوه نيوليبرالية أو على الأقل تماهت مع المنظومة النيوليبرالية القائمة،
التي سُرعان ما رفضت الثورة وانقضّت عليها مرة أُخرى، بمساعدة الأنظمة العميقة للدولة
الفاسدة.
في أول
أربعة فصول للكتاب، يناقش بيات -بالمقارنة- بين الثورات التي حدثت في ستينات وسبعينات
القرن الماضي، يركز تحديدا على الثورة الإيرانية، لماذا نجحت وأكملت مشوارها وما هي
الدوافع والبنيات الإيديولوجية والممارساتية التي اعتمد عليها هذا النجاح، وبين انتفاضات
الربيع العربي لا سيما مصر، كيف أُجهضت الثورة فيها وانتصرت الثورة المُضادة عليها،
وتبيان الفروقات المُتناقضة بين دوافع وبنيات الأولى (إيران) والثانية (مصر).
من أهم
هذه البنيات الأيديولوجية هي التوافق الذي حدث بين اليسار والإسلاميين في إيران، حول
هدف واحد هو إسقاط الشاه، بل وتَقاربهما غاضّين الطرف عن الخلافات الفكرية بينهُما،
وهذا يرجع إلى تنظيرات المُفكر الإيراني علي شريعتي، منظر الثورة الإيرانية، الذي هدّف
كتاباته وتَحريضاته الثورية ضد الشاه وطبقته الرأسمالية، لا ضد استقطاب القوى اليسارية
والعلمانية، حتى قامت الثورة وخلعت الشاه. ولم تكتف هذه الثورة بمجرّد خلع الشاه، بل
استكملت مشوارها، بـتأسيس هيئات تنظيمية وتشريعية ثورية، توغلت وصادرت واحتلت الأملاك
والأراضي البرجوازية، وبدورها وزّعتها على المَحرومين (فقراء الريف والمُدن). وغير
ذلك من ممارسات ثورية ملأت فضاءات عدّة، قانونية وسياسية وشارعية وتعليمية وفنّية وإعلامية،
ومن ثمَّ اقتلعت الثورة جذور النظام القديم، فجاءت الخلافات الفكرية والتنظيمية بين
الثوريين القُدامى.
عكس
ما حدث في مصر، كانت ثورة قيادتها، عبارة عن مجموعات نيوليبرالية ثائرة ضد النيوليبرالية،
وما إن انتصرت أولى أهداف الثورة، وهو خلع رأس النظام رئيس الجمهورية حسنى مبارك، حتى
تفرّق الثوار واستَقطبتهم الخلافات الإيديولوجية والتنظيمية، فسرعان ما تأسست الأحزاب
وسارعت بعضها البعض على السُلطات التشريعية والتنفيذية، وما إن فاز الإخوان المُسلمين
وحلفاؤهم من الإسلاميين، السلفيين خصوصا بأكثرية هذه المقاعد ورئاسة الجمهورية. فازداد
الاستقطاب أكثر وأكثر، وقسّم ثوار الأمس أنفسهم بأنفسهم، تقسيمات هشّة، مفرداتها علماني/إسلامي
- مع الدين أو ضد الدين، إلى أن استغل النظام القديم، مُتمثلا في القوة المركزية لديه،
المؤسسة العسكرية (الجيش) هذا الضعف والانقسام، وأطاح بالإسلاميين من السُلطة وتولى
بدوره زمامها قامعا جميع القوى بلا استثناء.
يتعمّق
آصف أكثر من فصله الخامس إلى العاشر، حول المُدن وطبيعة عملها اليومي، بل والطبيعة
النفسانية الجمعانيّة لدى الطبقات الدُنيا وما فوقها إلى الوسطى وما فوقها، وعلاقتها
بالمنظومة النيوليبرالية التي تؤثر على هذه النفسية، وتجعل منها نفسيات أقرب في طموحها
من الاستهلاك، أبعد من الثورة ضد هذه المنظومة. كل هذا أيضا، لا ينفصل عن طبيعة إدارة
السُلطة السياسية للحياة اليومية في سياقات متنوعة، فكرية وثقافية وسياسية وأمنية.
هذه
السياقات والأنماط المُختلفة نسبيا في إدارة الحياة اليومية، ربما تحرّك الفئات المَقهورة
نحو الثورة، لا سيما عندما ترى تنظيمات سياسية/حركية تعبّر عن أفكارها ومطالبها، فَيزداد
غضبها، وهذا ما حدث في ثورة يناير 2011، إذ لبّى جموع الشعب المصري نداءات القوى السياسية
للنزول للاحتجاج ضد المنظومة الأمنية/النيوليبرالية لنظام مبارك المَخلوع.
مرة
أُخرى، يرجع بيات في فصله العاشر إلى مُعضلة التحولات الديمقراطية أثناء وما بعد الانتفاضات
وكيف التغلب على التناقضات والانقسامات بين الفئات المَحسوبة على المُعارضة/الثورة.
ختم
بيات كتابه بالفصل الحادي عشر، والذي عنونه بـ "الثورة والأمل"، ليطرح من
خلاله عدة أسئلة أكثر وضوحا وإجابات يغلُب عليها القلق والريبة والغموض. كانت الأسئلة
من نوع هل الثورات تستحق كُل هذه التضحيات، لا سيما الثورات التي تفشل، هل الندم الذي
وُلد إثر هذا الفشل، ومئات الآلاف من ضحاياه، من قتلى وسجناء ولاجئين وعاجزين، ندم
حقيقي وواقعي يلزم اجتناب الوقوع فيه مرةً أُخرى، أي يلزم الابتعاد عن الثورة مرةً
أُخرى. كانت الإجابات، أن الثورة هي الأمل الوحيد الذي يفكر فيه الناس في لحظةٍ ما،
يفكرون فيه اضطرارا، لأن في رأيه، لا أحد يسعى إلى الثورة، بل يُضطر إليها، عندما لا
يجد مفرّا من سياسات السُلطة إلّا إليها.
سياسات
السُلطوية والاحتجاج عليها، عملية تاريخية مُتكررة ومُستمرة، في كل المجتمعات البشرية
التي يجتمع فيها، أرض (بلد) قانون (سُلطة) واجتماعات مُتنوعة. وانتفاضات الربيع العربي
التي اندلعت في عام 2011 وأزالتْ أنظمة ورُسّخ مكانها أنظمة جديدة، من المؤكد أنها
ستتكرر في السنوات القريبة أو البعيدة، حسب كل بلدٍ، وخصوصياته الإنسانية إجمالا، وهذا
ما يؤكد عليه بيّات في كتابه، أن الثورات لا تنتهي أبدًا، بل هي مُتكررة، تنجح وتفشل
حسب سياقات كثيرة، أهمّها النظرية الثورية التي يُقاد بها الفعل الثوري.