قد تبدو لنا الانتخابات الأسترالية بعيدة وقليلة التأثير في ما يجري في الشرق الأوسط، وبالأخص قضية فلسطين، لكن خيبة الأمل الإسرائيلية من «خسارة حكومة صديقة» تشي بغير ذلك، وتشير إلى أنّ هناك فرصة يمكن استغلالها عربيا وفلسطينيا لكسب نقاط على الساحة الدولية، وصد الدعم المتزايد لإسرائيل فيها، الذي يتجلّى بغياب للانتقاد والتحفّظ، ناهيك من الضغوط.
علام الانزعاج؟
تعتبر إسرائيل الدول الأنجلو- ساكسونية الحزام الأول في توفير الدعم والشرعية الدولية لها. فإلى جانب الوزن الكبير والاستراتيجي والمصيري، لروابطها بالولايات المتحدة، فهي تولي أهمية خاصة لعلاقاتها ببريطانيا وكندا وأستراليا. وحتى لو كانت الأخيرة أقل تأثيرا من غيرها، فإن إسرائيل تقيم لها اعتبارا خاصّا بسبب العلاقات التاريخية والدعم المتواصل «المنفلت» في المحافل الدولية، والطمع بأن تساهم أكثر في خدمة المصالح الإسرائيلية.
وإذ تميّزت حكومة المحافظين في العقد الأخير بالخروج عن الإجماع الدولي، إمعانًا في دعم إسرائيل، فإن فوز حزب العمّال بقيادة أنتوتي ألبانيزي، أثار تساؤلات ومخاوف إسرائيلية كثيرة ومنها:
أولا، طمعت إسرائيل بنقل السفارة الأسترالية إلى القدس، كما فعلت الولايات المتحدة، وقد حاول مسؤولون إسرائيليون وأمريكيون إقناع حكومة المحافظين، التي صرحت بأنّها تقوم بدراسة الموضوع، ولم تنف أنّها قد تقوم بنقل سفارتها في موعد لاحق. وبعد أن اعتبرت إسرائيل أنّها مسألة وقت، فهي تعرف اليوم جيّدا أن حكومة حزب العمّال الجديدة لا يمكن أن تقوم بمثل هذه الخطوة. الدول التي تفكّر في نقل سفارتها الى القدس سيزيد ترددها، بعد أن فهمت أنّه لن يكون لها شريك استرالي.
ثانيا، أعلنت حكومة المحافظين السابقة الاعتراف بالقدس الغربية عاصمة لإسرائيل، وخرجت عنها تصريحات بأنها لا تعتبر القدس الشرقية منطقة محتلة. وإذ قوبل إعلان حكومة المحافظين حينها بردود فعل غاضبة في صفوف حزب العمّال، فإن قيادة الحزب ستتعرض لضغوط من معسكر اليسار بإلغاء الاعتراف، أو على الأقل بموازنته بالاعتراف بالقدس الشرقية عاصمة لفلسطين. مثل هذا التطوّر لا يعجب إسرائيل، خاصة أنّها تأمل وتعمل على الحصول على المزيد من الاعترافات الدولية بما تدّعيه حول القدس عاصمة لها.
ثالثا، قرر مؤتمر حزب العمّال الأسترالي في مؤتمره عام 2017، الاعتراف بدولة فلسطين، وعاد وأكّد على الموقف ذاته في مؤتمر عام 2019. وهذا يتناقض مع موقف حكومة المحافظين السابقة، حيث كانت أستراليا من الدول القليلة، التي صوتت ضد قبول فلسطين عضوا كاملا في الأمم المتحدة. وقد عبّر كتاب صحافيون إسرائيليون عن تقديرهم بأن أوساطا واسعة في حزب العمّال الأسترالي ستطالب الحكومة العمالية بالسير وفق قرار مؤتمر حزب العمال، كما طرحه وزير الخارجية الأسبق، بوب كار، وهو «الاعتراف غير المشروط بالدولة الفلسطينية».
رابعا، عوّلت إسرائيل كثيرا على المساعي الأسترالية لضم إندونيسيا، أكبر الدول الإسلامية، إلى ركب التطبيع. وبعد أن كان الدور الأسترالي موضع ثقة أصبح بعد الانتخابات موضع تساؤل. وبالمجمل فإن إسرائيل كانت تعتبر أستراليا مدخلا لموطئ قدم لها في جنوب شرق آسيا والمحيط الهندي، وهي لا تعرف اليوم كيف ستسير الأمور. من المستهجن (لكن ليس من المستغرب) أن تعوّل إسرائيل على دور عربي بإقناع الحكومة العمالية الجديدة في أستراليا بمواصلة مساعيها بشأن إقناع إندونيسيا بالتطبيع.
رابعا: أشارت بعض المصادر الإسرائيلية عن قلقها من علاقة أنتوني ألبانيزي رئيس الوزراء الأسترالي الجديد بجيمي كوربين الرئيس السابق لحزب العمّال البريطاني والمعروف بمواقفه الحادّة ضد السياسات العدوانية الإسرائيلية، وبدعمه للشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة. وعلى الرغم من انتقادات ألبانيزي لإسرائيل، فهي حتى الآن كانت معتدلة نسبيا، فإن القلق الإسرائيلي هو من ضغوط المجتمع المدني ومنظمات اليسار وتأثيرها في الحكومة الجديدة. وقد لخّص محلل إسرائيلي الوضع الجديد في أستراليا: «سكوت موريسون المحافظ كان صديقا حميما لإسرائيل، وانتوني ألبانيزي أقل».
رغم القرب السياسي والتاريخي وحتى الأيديولوجي بين إسرائيل وأستراليا، إلا أن هناك فرصة حقيقة لجعل أستراليا أقل لهفة في دعم إسرائيل.
رغم القرب السياسي والتاريخي وحتى الأيديولوجي بين إسرائيل وأستراليا، إلا أن هناك فرصة حقيقة لجعل أستراليا أقل لهفة في دعم إسرائيل
سادسا: لقد خسر حزب المحافظين الموالي لإسرائيل الانتخابات، وخسر عدد من أعمدة دعم الدولة الصهيونية مقاعدهم النيابية في البرلمان، ومنهم وزير المالية السابق جوش فرايدنبرغ، المعروف بمواقفه الصهيونية، وكان مرشحا ليكون أول رئيس وزراء يهودي في استراليا، وكذلك خسر مقعده سفير أستراليا السابق في إسرائيل ديف شارما. في المقابل دخل البرلمان أكثر من عشرين نائبا معروفين بمواقفهم المناهضة لسياسات إسرائيل، منهم مستقلّون ومنهم أعضاء في حزب العمّال وحزب الخضر.
أستراليا تحتل فلسطين
أستراليا ليست بعيدة عن فلسطين، ففي التاسع والعشرين من تشرين الأول/أكتوبر 2017 تجمّع مسؤولون أستراليون وإسرائيليون في مدينة بئر السبع، جنوب فلسطين، لمشاهدة العرض الاحتفالي لراكبي خيول أستراليين، احتفالا بمرور مئة عام على احتلال بئر السبع وهزيمة القوّات العثمانية، من قبل فرق خيالة أسترالية شاركت الحرب في إطار قوّات الحلفاء. وحضر الاحتفال رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، بنيامين نتنياهو، ورئيس حكومة أستراليا حينها مالكوم ترنبول.
وأثنى نتنياهو على «النصر الأسترالي» مشدّدًا على أنّه مهّد لإقامة إسرائيل ولـ«عودة الشعب اليهودي إلى مسرح التاريخ». وفي كلمته تباهى ترنبول بالدور الأسترالي قائلا: «لقد أصبحت هذه المعركة من تاريخنا ومن ذاكرتنا، والهجوم الجريء الذي شنته قوّاتنا على القوّات العثمانية ساعد في تقدّم بريطانيا إلى فلسطين، وهي حقّقت نصرا لم يؤدّ إلى قيام دولة إسرائيل، لكنّه ساهم في إنشائها. ولو لم يقم الأستراليون بالإطاحة بالحكم العثماني لبقي وعد بلفور مجرد كلمات فارغة».
ما من شكّ بأن احتلال بئر السبع عام 1917، حسم المعركة في فلسطين ومهّد الطريق أمام دخول القوّات البريطانية بقيادة الجنرال اللنبي، وانسحاب القوّات العثمانية. وإنصافا للتاريخ لا بدّ من الإشارة إلى ما يغفله الكثيرون، وهو أنّ إحجام العثمانيين عن دعم الشيخ حمّاد الصوفي وتزويد القوّات، التي شكّلها من القبائل كافة في النقب، بالسلاح والعتاد سهّل مهمّة القوات الأسترالية الغازية. وإذ دار نقاش في أستراليا، في مطلع الأربعينيات، حول الموقف من قضية فلسطين، فإن الحكومة الأسترالية حسمت موقفها بدعم التقسيم، وعمل ممثلها في الأمم المتحدة، الذي ترأس جلسة التصويت على قرار التقسيم على تسهيل الأمور بالنسبة لإسرائيل. وكانت أستراليا من الدول الأولى التي اعترفت بالكيان الإسرائيلي وأنشأت معها علاقات دبلوماسية وعلاقات سياسية واقتصادية متينة، لم تتأثر ببعض الأزمات العابرة بين البلدين.
استعمار استيطاني
لا ينحصر التاريخ المشترك بين إسرائيل وأستراليا، بما حدث في الحرب العالمية الأولى، بل يعود أكثر إلى أن الدولتين، الأسترالية والإسرائيلية، تمثّلان حالة استعمار استيطاني. وكما قامت إسرائيل على أنقاض الشعب الفلسطيني وفوق أراضيه، فإن أستراليا كذلك قامت على أنقاض 250 «دولة» إبريناليجية وعلى حساب الشعوب التي سكنت القارة الأسترالية منذ حوالي 40 ألف عام، أي منذ وطأتها أقدام البشر الأوائل. الرواية الأسترالية ليست بعيدة عن الرواية الإسرائيلية في تبرير بناء كيان سياسي جديد على حساب أصحاب البلاد الأصليين.
لكن وعلى الرغم من القرب السياسي والتاريخي وحتى الأيديولوجي بين إسرائيل وأستراليا، إلّا أن هناك فرصة حقيقة لجعل أستراليا أقل لهفة في دعم إسرائيل ولدفعها لاتخاذ مواقف أكثر توازنا في الشأن الفلسطيني وحتى استمالتها في بعض القضايا. هناك في أستراليا اليوم جالية عربية كبيرة، وهناك قوى سياسية وقوى مجتمع مدني مناصرة للقضية الفلسطينية، وبعض هذه الأطراف لها وجود وعلاقات داخل الحزب الحاكم، ولها تأثير في قياداته، ولعل الانزعاج الإسرائيلي من إمكانيات حصول تغيير في السياسة الأسترالية مقارنة بمواقف حكومة المحافظين السابقة، هو مؤشّر إلى أن هناك ما يمكن فعله وتغييره، على الأقل كفاهم تباهيا باحتلال فلسطين، الذي جلب من بعده الكوارث.