شهد القرن
العشرين مبادرات دولية من أجل بناء منتظم دولي، وكانت المبادرة الأولى مع عصبة
الأمم سنة 1919، ولم يكتب لها النجاح بسبب الحرب العالمية الثانية، بينما تتجلى
المبادرة الثانية، أو اللاحقة في تأسيس منظمة الأمم المتحدة سنة 1945. ويبدو أن
سعي الغرب إلى طرد روسيا من عدد من المنظمات المرتبطة بالأمم المتحدة بسبب الحرب
في أوكرانيا، قد ينهي عمل هذه المنظمة أو يعمل على تجميدها، في وقت يطالب المنتظم
الدولي بإعادة النظر في هياكلها ووظيفتها.
تحكمت ظروف
سياسية في تأسيس كل من عصبة الأمم والأمم المتحدة، فهما من النتائج المباشرة لأبشع
الحروب الكونية التي شهدتها البشرية، وقامت الدول الكبرى المنتصرة بوضع تصورهما
وأجندتهما، فهي من صنع المنتصرين، ورغم الانتقادات التي توجه إلى عمل الأمم
المتحدة، فهي أول لبنة حقيقية، في تاريخ البشرية، نحو الانتقال إلى منتظم دولي
يحاول الخضوع لقواعد وقوانين متساوية أو شبه متساوية، علما أن القوى الكبرى صاحبة
الفيتو تعرقل تحقيق هذا الهدف المنشود.
وتأسيس الأمم
المتحدة هو منعطف في تاريخ البشرية، إذ لأول مرة في تاريخها تتفق، ولو جزئيا،
مختلف الثقافات والتوجهات السياسية والديانات، على الالتئام في إطار للحوار وفض
النزاعات سلميا. وإذا حاولنا انتقاد دور الأمم المتحدة وما يمكن وصفه بالحصيلة
الهزيلة في نشر السلم، فالأمر يتطلب إلقاء نظرة على تاريخ البشرية، وعلى الأقل
خلال الخمسة قرون الأخيرة، حيث ساد منطق الغاب، ومنطق فرض إرادة القوي على الضعيف،
الذي من عناوينه العبودية التي مارسها الغرب، ثم استعماره لمناطق شاسعة من العالم،
بل لقارة بالكامل كما جرى مع أفريقيا. وعليه، سيكون من باب عدم الإنصاف التقليل من أهمية منظمة تريد تنظيم شعوب
العالم التي عاشت آلاف السنين متحاربة. ويبقى أكبر نجاح للأمم المتحدة هو الحد من
الاستعمار، هذه الآفة الخطيرة التي رافقت البشرية منذ مدة طويلة. وعملت الأمم
المتحدة منذ تأسيسها على تصفية الاستعمار في مختلف مناطق العالم مع استثناءات بسبب
الطابع المعقد لبعض النزاعات. ولم يشهد العالم خلال العقود الأخيرة سوى حالات
استعمار محدودة، مثل احتلال العراق للكويت والاحتلال الأمريكي للعراق. ويبقى حلم
الكثير من السياسيين من مختلف الديانات والثقافات والتوجهات الأيديولوجية هو،
السعي إلى تحويل الأمم المتحدة إلى حكومة عالمية. وربما لأول مرة في تاريخها منذ
التأسيس، أصبحت الأمم المتحدة عبر منظمة الصحة العالمية مصدرا مهما في رسم
استراتيجيات واتخاذ القرار الخاص بمواجهة جائحة فيروس كورونا، حيث كانت معظم الدول
تنتظر توجيهاتها وإرشاداتها باستثناء بعض الدول. وكما قضت الحرب العالمية الثانية
على عصبة الأمم، ومهدت لتأسيس منظمة جديدة وهي الأمم المتحدة، يبدو أن هذه الأخيرة
قد تكون ضحية الحرب الروسية ضد أوكرانيا. في هذا الصدد، يوجد انقسام واضح وسط
الأمم المتحدة حول الغزو الروسي لأوكرانيا، يوجد الغرب وبعض الدول الدائرة في
فلكه، التي تشن حربا سياسية ضد موسكو، ومن ضمن أبرز الإجراءات حتى الآن هو طرد
روسيا من مجلس حقوق الإنسان، ثم انسحاب روسيا بنفسها من المنظمة العالمية للسياحة.
ويستمر الغرب في البحث عن آليات أخرى لتقليص الحضور الدولي لروسيا. وفي المقابل،
توجد دول وعلى رأسها الصين تتخذ مسافة من هذه الحرب السياسية، بل تميل إلى تبني
الخطاب الروسي.
وعلاقة
بالحرب، ترى أوكرانيا أن الأمم المتحدة لم تقم بواجبها في الضغط على روسيا
والتنديد الشديد بها ومعاقبتها، وتطالب بطرد هذا البلد من مجلس الأمن الدولي، حيث
يتمتع بحق الفيتو. وتقف بريطانيا بدورها وراء هذا الطلب، غير أن الولايات المتحدة
لم تقدم على أي مبادرة بسبب عدم وجود آليات قانونية، في الوقت ذاته، خوفا من أن
تؤدي خطوة مثل هذه إلى “موت الأمم المتحدة” لتلتحق بعصبة الأمم. وتوجد مفارقة كبيرة،
فقد تجاوزت بريطانيا والولايات المتحدة مجلس الأمن سنة 2003 في شن الحرب ضد
العراق، التي كانت مدمرة وبحجج تبين أنها واهية، والآن تتجاوز روسيا مجلس الأمن في
حربها ضد أوكرانيا. وهكذا، فأخطاء الماضي التي لم تعتذر عنها واشنطن يفقدها القوة
المعنوية والأخلاقية للمطالبة بعقوبات أممية ضد روسيا ومنها الطرد من مجلس الأمن.
ويبقى الإجماع وسط المنتظم الدولي هو فشل الأمم المتحدة في لعب دور في إيقاف الحرب
الروسية ضد أوكرانيا، لاسيما عندما يتعلق الأمر بمحاولة معاقبة الدول الكبرى. وهذا
الوضع بدأ يجر عددا من الدول إلى الإصرار على إصلاح المنظمة، ومن ضمن الأصوات التي
تتزعم الإصلاح تركيا والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا بدعم من عشرات الدول من
أمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا.
وكانت مجموعة
دول البريكس قد طالبت سنة 2019 بضرورة إصلاح الأمم المتحدة لتقوم بدورها الحقيقي.
ولم يعد مجلس الأمن الدولي يعكس التطورات الحاصلة في العالم، فالغرب ممثل بثلاثة
أصوات الفيتو وهي فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة، ثم يوجد الصوت الروسي
والصيني، وتبقى ثقافات وشعوب، بل قارة بكاملها خارج مجلس الأمن مثل القارة الأفريقية.
تحمل الحرب
الروسية – الأوكرانية نهاية ما تبقى من النظام العالمي الجديد بعدما فقد قوته منذ
سنوات. وتعمل الآن على تغيير سريع في الخريطة الجيوسياسية العالمية بعدما عجز
الغرب وقف هذه الحرب اقتصاديا وعسكريا، ويحدث لأول مرة خلال القرون الأخيرة. وقد
تمتد التأثيرات إلى الأمم المتحدة، إما رغبة من الدول للإصلاح أو بطرد روسيا من
مجلس الأمن الدولي وهذا يعني نهاية الأمم المتحدة على شاكلة عصبة الأمم.