في النقاشات العربية، نكثر من الحديث عن مواقف الرفض والعداء التي تتخذها الشعوب الأوروبية من الأقليات العربية والإسلامية التي تتألف من مهاجرين قدموا إليهم للإقامة والعمل.
نشير أيضا باستمرار إلى القيود التي تفرضها الحكومات الأوروبية على تحركات هؤلاء الوافدين من بلاد الشرق ومساعيهم للحفاظ على ثقافتهم الأصلية وممارستهم لشعائر دينهم.
ويرى العديد من الكتاب العرب، وعينهم هنا على قضايا من شاكلة منع الدولة الفرنسية ارتداء الحجاب في المؤسسات التعليمية أو إثارة مسألة حظر الحجاب في الانتخابات الرئاسية 2022 في فرنسا أو الاستقبال الإيجابي للاجئين الأوكرانيين في مقابل رفض استقبال الكثير من اللاجئين العرب والمسلمين، يرون أن ذلك يوضح عدم جدية حكومات أوروبا الديمقراطية فيما تدعيه من اعتراف بمبدأ التنوع الثقافي والتسامح مع الآخر وإمكان العيش المشترك لأتباع الأديان المختلفة في المجتمعات الغربية المعاصرة التي ترفع شعارات المساواة والانفتاح.
بل يذهب البعض إلى القول بأن أوروبا لا تسعى في التحليل الأخير إلا إلى دمج الأقليات الوافدة من خلال إتباع استراتيجيات صهرية وقسرية بالأساس لا تلتفت إلى الخصوصيات الثقافية، بل وقد تلجأ حكوماتها حين تفشل استراتيجياتها إلى الطرد والنبذ والإغلاق (الأسوار المشيدة في وجه طالبي اللجوء من بلادنا) حين تفشل وهو ما يتناقض بجلاء مع روح الليبرالية الأصيلة التي تتيح للفرد، طالما التزم السلمية واحترم القانون، مطلق الحرية في التفكير والتصرف والتعبير عن قناعاته حتى وإن تعارضت مع القواعد والأعراف المستقرة.
بعبارة أخرى، نزعم كعرب ونحن في المجمل سكان مجتمعات غير ديمقراطية أن تعامل الأوروبيين مع الوجود العربي-الإسلامي يتسم بالنفاق والتشوه والبعد عن المبادئ الديمقراطية والليبرالية الحقة. وفي هذا افتراء صريح. فواقع الأمر أنه يمكن صياغة رؤية بديلة لأنماط تعاطي الديمقراطيات الليبرالية في أوروبا مع الخصوصيات الثقافية وذلك من خلال النظر في قضيتين رئيسيتين. فعلى نقيض استخدامه المكثف في الكتابات المصرية والعربية، تجاوزت الكتابات الصحافية الأوروبية ومعها الوثائق السياسية مفهوم «الأقلية» ولم تعد توظفه في معرض الإشارة إلى وضعية الجاليات الأجنبية. تبدو في اللحظة الراهنة مفاهيم مثل الجماعات العرقية والمجموعات الدينية أكثر تناسقاً مع المزاج الأوروبي، وتعبر ولا شك عن تحول في الإدراك العام لوجود الجاليات ذات الأصول الآسيوية والأفريقية والتركية والعربية وجل المجموعات ذات الهوية الدينية الإسلامية باعتبارها حقيقة إنسانية مركبة لا يمكن اختزالها في مجرد علاقات خطية بين أغلبية مهيمنة وأقليات مستضعفة.
الأهم هنا أن الواقع المعاش للجماعات العرقية والمجموعات الدينية الوافدة في المجتمعات الأوروبية يبتعد كل البعد عن الادعاءات التبسيطية التي نطلقها نحن حول استراتيجيات الصهر والقسر والطرد والإغلاق. فعلى خلاف ذلك، تتكرر من قبل الحكومات الديمقراطية ومعها منظمات المجتمع المدني والقطاع الخاص المساعي المنظمة لإقامة علاقات ارتباط وثيقة بين الوافدين وبين المرتكزات القيمية والدستورية والقانونية والسياسية للمجتمعات الأوروبية على نحو يحفز على الالتزام بالنظام العام ويشجع على الاندماج الطوعي ويبقي للوافدين على خصوصياتهم الثقافية فاعلة في المجال الخاص بمكوناته الثلاثة الفرد والأسرة والدين. أما أمثلة تلك المساعي المنظمة فهي عديدة، بدءا من التمويل الحكومي لبرامج تعلم لغة الأغلبية للوافدين مرورا بمؤسسات مكافحة العنصرية والتمييز وانتهاءا بسياسات التجنيس الليبرالية.
من جهة أخرى، لا ينبغي الخلط بين احترام النظم الديمقراطية للتعددية وتقديسها للحرية الفردية والتسامح وبين جوهرية مبدأ حيادية الفضاء العام. نهضت الدولة القومية الحديثة في أوروبا الغربية – دولة ما بعد الحرب العالمية الثانية والهولوكوست ومذابح التطهير العرقي – على وعدين رئيسيين لمجتمعاتها؛ الأمن والحياد. وفي حين عبر الوعد الأول عن الرغبة المشروعة للشعوب الأوروبية في الاستقرار بعد حربين عالميتين ودمار شامل، جاء وعد الحياد كنتيجة لنقلة حضارية في رؤية أوروبا لدور الدولة ومنطق إدارة علاقتها بالمجتمع أنجزتها في أعقاب الفشل الذريع للمشاريع القومية المتطرفة الباحثة عن نقاء العنصر وتفرد الهوية. يعني وعد الحياد أن الدولة لا تنظر حين تصيغ الأطر الدستورية واللوائح القانونية المنظمة لحركة الأفراد وحقوقهم وواجباتهم في الفضاء العام إلى انتماءاتهم الطبقية أو العرقية أو الدينية أو غيرها من الولاءات الأولية التي يفترض تخطي حدودها الضيقة باتجاه رحابة مبادئ المواطنة والمساواة والانفتاح على الآخر. فقط فيما يخص إدارة علاقات الأفراد والأسر في المجال الخاص يتعين على سلطات الدولة احترام التقاليد والأعراف المختلفة وأخذها قانونيا وإجرائيا بعين الاعتبار.
لا تملك الحكومات الديمقراطية في أوروبا، إذا، إلا أن تقف موقف المنع حين تهدد الخصوصيات الثقافية باختراق الفضاء العام على نحو يلغي حياديته إن بصورة رمزية كما في أزمة حجاب الطالبات المسلمات في مدارس الدولة الفرنسية العلمانية أو فعلية من شاكلة محاولات تأسيس أحزاب سياسية إسلاموية الطابع في ألمانيا وهولندا لا تعترف بشرعية النظام الديمقراطي القائم وتتنصل من احترام القواعد الدستورية والقانونية المعمول بها هناك. وحكومات أوروبا تنتصر بموقف المنع هذا للقيم والمبادئ الليبرالية التي تضمن حيادية الفضاء العام.
أما الدفع من جانب عديد الكتاب العرب بالحضور العام للرموز الدينية في المجتمعات الأوروبية أو بوجود أحزاب سياسية ذات جذور مسيحية للتدليل على فساد المنطق الديمقراطي الليبرالي وتناقضاته الداخلية، فمردود عليه من خلال التشديد على مركزية حلقة متكاملة من الاختيارات التاريخية التي ولد النموذج الديمقراطي الأوروبي في سياقها وأهمها كان التصالح بين السلطة الدينية والسلطة الزمنية على نحو سمح للدولة القومية (السلطة الزمنية) بإدارة المجتمع سياسيا وترك للمؤسسات الكنسية (السلطة الدينية) حق التوجيه القيمي والأخلاقي للأغلبيات المسيحية. ويظل الانفتاح في الفضاء العام على رموز ورؤى دينية أخرى، إسلامية كانت أو غيرها، مشروطا بالصياغة الديمقراطية لتوافق مجتمعي يتجاوز حدود الجماعات العرقية والمجموعات الدينية المختلفة ويقبل حضور تلك الرموز والرؤى كتعبير عن ممارسة التسامح واحترام التعددية. وليس لمثل ذلك التوافق المجتمعي أن ينهض ما لم يقبل الوافدون من العرب والمسلمين إيضا إعمال ذات قيم التسامح والتعددية وقبول الرأي الآخر فيما خص شؤونهم هم، حتى وإن طال ذلك العقيدة والمذهب.