كتب الصحفي البريطاني دافيد هيرست، مقالاً قبل أيام في موقع ميدل إيست آي، نشرت له ترجمة عربية في موقع عربي21، حول أهمية ودلالات التقرير الذي أصدرته مؤخراً منظمة العفو الدولية حول عنصرية الكيان الصهيوني، وحول الطبيعة الإجرامية لنظامه الذي يمارس الأبارتيد ضد الفلسطينيين في كل المنطقة الواقعة بين البحر والنهر.
وأجرى هيرست مقارنة بين نضال أهل فلسطين ضد هذا النظام العنصري ونضال شعب جنوب أفريقيا ضد نظام الأبارتيد الذي جثم على صدور الناس هناك عقوداً قبل أن يطاح به في مطلع تسعينيات القرن العشرين بعد صراع طويل مثل شعب جنوب أفريقيا فيه المؤتمر الوطني الأفريقي بزعامة الراحل نيلسون مانديلا.
ومن العبارات المؤلمة، ولكن الصادقة، التي وردت في مقال هيرست، قوله:
"على النقيض من المؤتمر الوطني الأفريقي، لا تملك فلسطين زعيماً ملهماً ذا رؤية. بل إن رئيسها محمود عباس، عبارة عن قوة سياسية مستنفدة، فهو لا يجرؤ على مواجهة شعبه في انتخابات حرة ونزيهة."
ما من قوة احتلال شهدتها البشرية خلال القرون الأخيرة إلا وسعت إلى ضرب إسفين في قلب الشعب الذي تحتله من خلال إبراز شخصيات متواطئة معها، تمدها بوسائل التمكين حتى تتنصب قيادات على شعوبها، فتقدم التنازلات باسمها وتوفر على المستعمر، من خلال خدماتها الجليلة، كثيراً من الجهد والمال وتطيل عمر كيانه الاستيطاني بفضل جهودها التي تقوض كل نضال من أجل التحرير.
في هذا الشأن، لا أبالغ حين أجزم بأن فاجعة شعب فلسطين كانت أكبر من كل الفواجع التي شهدتها شعوب تعرضت لاحتلال استيطاني من قبل، إذ أن الكيان الصهيوني، ولئن لم ينجح في أي من مساعيه السابقة في فرض قيادات فلسطينية عميلة له على أهل فلسطين، حظي بانتصار غير مسبوق عندما أهدت إليه قيادة أكبر حركة نضالية في تاريخ القضية، حركة فتح، منحة لم يكن يحلم بها الآباء المؤسسون للصهيونية، حينما حولت تلك القيادة مشروعاً كانت الغاية من وجوده تحرير فلسطين، كل فلسطين من بحرها إلى نهرها، إلى سلطة عميلة غدت ذراعاً أمنياً للمحتل وجهازاً من أجهزته القمعية، تؤمن الاحتلال وتحرس الاستيطان، وتلاحق المناضلين الذين مازالوا على العهد لم يبدلوا تبديلاً.
ولئن كان دافيد هيرست خص بالذكر محمود عباس، الذي وصفه "بالمستنفد، الذي لا يجرؤ على مواجهة شعبه في أي انتخابات حرة ونزيهة"، إلا أن كل قيادات فتح، وقيادات منظمة التحرير، التي شاركت في إبرام اتفاقيات أوسلو وساهمت في إقامة السلطة المنبثقة عنها في رام الله وفي وترسيخ أقدامها، تتحمل جميعها نفس الإثم، وهي مجللة بنفس القدر من العار الذي سيظل يلاحقها إلى الأبد، وعلى رأس هؤلاء جميعاً ياسر عرفات الذي ضلل كثيراً من الفلسطينيين حينما استثمر ما لديه من رصيد نضالي كان مدخراً لديهم في إيهامهم بأنه إنما كان يخدم القضية ويمهد لإقامة الدولة الفلسطينية "وعاصمتها القدس الشريف"، مع أن جهده منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي، ومنذ أن عبرت عن ذلك المنظمة التي يقودها من خلال ما يسمى بالنقاط العشر، لم يتجاوز البحث عن قنوات تمكنه من التفاهم مع الصهاينة المحتلين على إنجاز ما يضمن بقاءه في مقعد القيادة ولو كان ذلك على حساب الشعب وقضية الأمة الأولى.
بعض القيادات الوطنية داخل حركة فتح خطت لنفسها مساراً نضالياً تنأى من خلاله بنفسها عن المسار الخياني الذي بات نهجاً رسمياً للحركة ولمنظمة التحرير التي هيمنت عليها، وكانت عاقبة هؤلاء أن تمت تصفيتهم أو وقع إقصاؤهم.
بل مما بات معروفاً بالضرورة هو أن أوسلو إنما كان هدفها الأول إطفاء جذوة الانتفاضة الفلسطينية وتأمين الاحتلال من تداعيات ثورة شعبية شاملة، ومنع بروز حركة بديلة تستأنف مسيرة التحرير.
لقد كشف إبرام اتفاقيات أوسلو مع الكيان الصهيوني عن كم العفن الذي وصل إلى النخاع داخل حركة التحرير الوطني الفلسطيني، ومازال ثمة ما هو أعظم مما لم يطلع عليه كثير من الناس، وستكشفه الأيام، وسيكتب عنه المؤرخون يوماً بلا ريب.
ومن ذلك ما كنت قد قرأته في كتاب The Good Spy "الجاسوس النبيل" لمؤلفه "كاي بيرد" من أن ياسر عرفات، وبموجب وثائق رسمية لدى المخابرات الأمريكية، أرسل إلى الأمريكان عبر قناة خلفية في منتصف عام ١٩٧٣ تقريباً يقول لهم إنه ومن معه في القيادة الفلسطينية توصلوا إلى قناعة بأن إسرائيل وجدت لتبقى وأن زوالها غير وارد، وعليه فإن الدولة الفلسطينية ينبغي أن تقوم في الأردن، وطلب من الأمريكان مساعدته في الإطاحة بالنظام الهاشمي في الأردن مقابل إقرار الفلسطينيين بحق إسرائيل في الوجود في فلسطين.
أدرك بعض الفلسطينيين، بما في ذلك عناصر داخل حركة فتح، حجم المصيبة مبكراً، فسعوا إلى تدارك الأمر.
بعض القيادات الوطنية داخل حركة فتح خطت لنفسها مساراً نضالياً تنأى من خلاله بنفسها عن المسار الخياني الذي بات نهجاً رسمياً للحركة ولمنظمة التحرير التي هيمنت عليها، وكانت عاقبة هؤلاء أن تمت تصفيتهم أو وقع إقصاؤهم.
واختارت قيادات شعبية أخرى أن تمضي قدماً في إنشاء مشاريع تحرير بديلة خارج إطار منظمة التحرير التي حرفت عن السبيل، وكان من تلك المشاريع المبكرة حركة الجهاد الإسلامي التي انطلقت في مطلع ثمانينيات القرن العشرين، ثم بعدها بسنين قررت جماعة الإخوان المسلمين في فلسطين إطلاق حركة المقاومة الإسلامية (حماس) التي جاء الإعلان عنها مرادفاً لانطلاق انتفاضة ديسمبر (كانون الأول) من عام 1987.
رغم ما مثلته تلك المبادرات من إمكانية التحول إلى مشاريع بديلة، إلا أن القائمين عليها، ولأسباب عديدة – بعضها خارج عن إرادتهم بلا شك، لم يجرؤوا على التبرؤ من منظمة التحرير وحركة فتح وإعلان أنهما لم يعودا يقودان المقاومة ومشروع النضال، ناهيك عن أن يكون أحدهما أو كلاهما "ممثلاً شرعياً ووحيداً" للشعب الفلسطيني.
لاعتبارات سياسية ودبلوماسية ومالية، لم تقو لا حركة الجهاد ولا حركة حماس على إفراز بديل ممثل بالفعل لإرادة وآمال وطموحات الشعب الفلسطيني.
أدعو بهذه المناسبة القائمين على المؤتمر الشعبي الفلسطيني، أو مؤتمر فلسطينيي الخارج، إلى أن يعيدوا حساباتهم، وأن يخرجوا على الفلسطينيين وأنصار قضيتهم العادلة بمبادرة تعيد لهم الثقة وتجدد لديهم الأمل
ثم جاءت فكرة إنشاء ما سمي بمؤتمر فلسطينيي الخارج في مطلع عام 2017 وهو تجمع ينضوي تحت مظلته كثيرون ممن وصلوا إلى القناعة بأن أوسلو كانت جريمة في حق الشعب الفلسطيني وخيانة للقضية وأن منظمة التحرير لم تعد تمثل الفلسطينيين، وكان بعضنا يرجو أن يشكل ذلك نواة لإيجاد البديل المنتظر.
إلا أن القائمين عليه لم ينجوا من نفس الاعتبارات والقيود التي حالت بينهم وبين اتخاذ الخطوة الشجاعة المطلوبة والمتمثلة بفك أجهزة التنفس الصناعي عن الكائن الميت سريرياً، والمسمى منظمة التحرير.
ما أشار إليه دافيد هيرست في مقاله ينسحب على كل فصائل الفلسطينيين بلا استثناء، فهي جميعاً تنقصها القيادة الملهمة صاحبة الرؤية الثاقبة، والإرادة الصلبة، والعزيمة التي لا تقهر على تحدي الصعاب أياً كانت، لصيانة المبدأ الذي سعت لوأده اتفاقيات أوسلو وكل ما سبقها وما لحقها من صفقات عار أبرمها العرب هنا وهناك نجم عنها الاعتراف بحق الصهاينة في فلسطين وتطبيع العلاقات مع كيان قائم على فكرة عنصرية بغيضة، هي صدى للفكرة التي قامت عليها كل المشاريع الاستعمارية الاستيطانية الإحلالية من قبل.
لقد أضعف إخواننا في حركتي الجهاد الإسلامي وحماس من أنفسهم ومن مشاريعهم عندما وافقوا على الدخول في نفق محادثات عبثية مع من خانوا الشعب في أوسلو، وقضوا معهم ساعات وأيام في فنادق القاهرة وغيرها أملاً في إيجاد أرضية مشتركة يقفون معهم عليها، وكان الأحرى بهم منذ البداية أن يلفظوهم، ويتمسكوا بلا مواربة ولا مجاملة وبدون حسابات سياسية أو دبلوماسية بالفكرة الأصيلة، ألا وهي أن فلسطين كل فلسطين ملك للأمة، وأن هذا الكيان الصهيوني الذي أقيم فوق ترابها كيان استعماري استيطاني إحلالي هو بطبيعته ضد الإنسانية ومناقض لكل القيم النبيلة التي يجمع عليها البشر، وأنه ينبغي الاستمرار في النضال والكفاح بكافة الأشكال إلى أن يزول هذا الكيان كما زال شبيهه من قبل في جنوب أفريقيا، وأن المكاسب الوهمية، سياسية أو دبلوماسية، لن تصون من يلهث وراءها، وأن الحق أحق أن يتبع، وأن الله العظيم المتعال حذرنا في كتابه الكريم قائلاً: وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم.
أدعو بهذه المناسبة القائمين على المؤتمر الشعبي الفلسطيني، أو مؤتمر فلسطينيي الخارج، إلى أن يعيدوا حساباتهم، وأن يخرجوا على الفلسطينيين وأنصار قضيتهم العادلة بمبادرة تعيد لهم الثقة وتجدد لديهم الأمل، وتفرز لهم قيادة تاريخية ذات رؤية. وإلا، فلينفضوا، وليوفروا الجهد والمال، وليتركوا الميدان لمن يقيضه الله لحمل الراية واستئناف المسير.