واضح تماماً أن الوضع الفلسطيني، وصل دركاً مأساويا. ولا بديل عن ضرورة عكس اتجاهه، وليس مجرد تصويب له فقط. فالتصويب يكون لمعالجة خلل بسيط ما، نتج جرّاء قرار خاطئ. لكن ما نحن فيه ليس مجرّد خلل. إنه سياسة متواصلة الحلقات، وتمادٍ في إلغاء الأهم بين كل المكاسب التي حققها الشعب الفلسطيني بفضل تضحيات شهدائه وجرحاه وأسراه ومناضليه.
أكبر تلك المكاسب، على الإطلاق، هو فرض قضية الشعب الفلسطيني كقضية حقوق شعب في الحرية والاستقلال وتقرير المصير، وليست مجرد قضية إنسانية للاجئين يمكن معالجتها والتعاطي معها وحلّها من خلال وكالة غوث ما.
ما نشهده هذه الأيام هو تفريط بهذا الانجاز لمنظمة التحرير الفلسطينية، فإذا استمر على هذا النحو، يكون ليس مجرّد خطأ فقط، بل خطيئة. ولو عدت إلى محفوظاتي من زمن الطفولة والفتوّة لتذكّرت أن في المسيحية (الكاثوليكية على الأقل) فرقا كبيرا وعظيما بين «الخطيئة العَرَضيّة» التي يمكن تجاوزها والعمل على تصحيحها وعدم تكرارها، و«الخطيئة المُميتة» التي تستوجب العقاب والمحاسبة.
يقول رئيس الحكومة الإسرائيلية، نفتالي بينيت، بصريح العبارة، أنه لن يلتقي مع أي مسؤول فلسطيني، ولن يسمح بأي مفاوضات سياسية مع الفلسطينيين.
ورغم كل هذا الوضوح الفج، تواصل القيادة الشرعية الفلسطينية المطالبة بالعودة إلى المفاوضات المتوقفة منذ سنة 2014. وحاولت قيادة المنظمة التذرّع بحجة أن زمن بينيت في رئاسة الحكومة محدود، وينتهي بعد سنة وستة أشهُر، وأن وزير الخارجية الإسرائيلي الحالي، يئير لبيد، سيتسلم عندها رئاسة الحكومة هناك، وسيغيّر هذه السياسة. لكن لبيد أعلن في لقاء معلن، بالصوت والصورة، يوم الثالث من الشهر الماضي، أنه « ليس لَدَي نيّة إجراء مفاوضات سياسية مع الفلسطينيين».
تساءلت في نهاية مقالي السابق في «القدس العربي» قبل أُسبوعين، وكان عنوانه «من أجل ان تبقى المنظمة ممثلاً شرعياً وحيداً» للشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده، حول «هل من المُجدي، وطنياً، أن نتخلّى عمّا هو قائم، ونقفز نحو المجهول، في عتمة هذا الليل الفلسطيني والعربي؟».
يتساوى في إلحاق الضرر بالمجتمع اثنان: «بطل» (مُزوَّر) يبحث عن دور، و«بطل» (حقيقي) يستنكف عن لعب دور حاسم ساقته الأقدار، ينتظر بَطَلَه.
أكبر تلك المكاسب، هو فرض قضية الشعب الفلسطيني كقضية حقوق شعب في الحرية والاستقلال وتقرير المصير، وليست مجرد قضية إنسانية للاجئين يمكن معالجتها والتعاطي معها وحلّها من خلال وكالة غوث ما مرّت منظمة التحرير الفلسطينية من قبل، بتجربة شبيهة لما نشهده هذه الأيام.
كان ذلك في أعقاب كارثة حرب حزيران/يونيو 1967. وتصرف رئيس المنظمة الأول الراحل، أحمد الشقيري، بمسؤولية تُحسب له، وانسحب من المشهد بكرامة، وسلّم موقعه لنائبه، يحيى حمّودة، الذي شكّل «فاصلة» اقتصر دورها على تسليم قيادة منظمة التحرير لقائد حركة «فتح» (الفتيّة في حينه) وهو الزعيم الفلسطيني، والأب الروحي للوطنية الفلسطينية، ياسر عرفات، الذي قاد السفينة بحنكة واقتدار، وجمّع كل التيارات الفلسطينية، دون أي استثناء، في إطار المنظمة التي أصبحت عملياً ورسمياً: «الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني».
على أنه يجدر بنا في هذا السياق، تسجيل حقيقة ناصعة، وهي أن أحمد الشقيري لم يكن مسؤولاً بالمطلق، لا من قريب ولا من بعيد، عن كارثة حرب حزيران/ يونيو العربية الشاملة.
أنا لا أقول إن على الأخ الرئيس أبومازن الإقدام على الخطوة الجريئة التي اختارها أحمد الشقيري. ولكنني أعتقد أن بمقدوره إيجاد مخرج مُشرّف، هو التحرك الفوري، والمبادرة الى تشكيل إطار فلسطيني قيادي جديد، هو تشكيل «حكومة فلسطينية في المنفى» من عدد لا يتجاوز العشرة أعضاء، تتمثل فيها جميع القوى الفلسطينية، تتمتع بحرية الحركة، وتتولى إدارة مجمل العمل السياسي الفلسطيني في مواجهة العدو الإسرائيلي، ويبقى لـ«السلطة الوطنية الفلسطينية» ومنظمة التحرير، إدارة شؤون الحياة اليومية لجماهير الشعب الفلسطيني في كافة المناطق الخاضعة، عملياً، للاحتلال والاستعمار الإسرائيلي.
في حال تمّ اعتماد هذه المبادرة، لا يعود من المشين أن تتولى «السلطة الفلسطينية» التحاور، بل والتفاوض أيضاً، مع وزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس وأمثاله، حول شؤون الحياة اليومية للفلسطينيين، في حين يكون دور «حكومة المنفى» الأول، (في اعتقادي، وكما أقترح) تولّي مسؤولية استدعاء غانتس، وأمثاله.. وصولاً حتى آخر مستوطن/مستعمر في الضفة الغربية، (والقدس الشرقية جزء أساسي ورمزي منها) إلى محكمة الجنايات الدولية في لاهاي.
هذا مخرج مشرّف للأخ الرئيس أبو مازن. ويبقى بعد ذلك النصف الثاني من التساؤل، وهو «القفز نحو المجهول في عتمة هذا الليل الفلسطيني» فأقول:
يتساوى في إلحاق الضرر بالمجتمع اثنان: «بطل» (مُزوَّر) يبحث عن دور، و«بطل» (حقيقي) يستنكف عن لعب دور حاسم ساقته الأقدار، ينتظر بَطَلَه.
ويحضرني، عند هذه الحالة، بيت من الشِّعر لأمير الشعراء، أحمد شوقي، في قصيدته الشهيرة بمطلعها: «سلامٌ من صبا بردا أرقُّ» يقول فيه:
« فَمِن خِدّعِ السِّياسّةِ أن تُغَرّوا // بِألقابِ الإمارةِ وهيَ رِقُّ»
أمّا عن الثاني، «البطل» الحقيقي المرتقب، (وما لم يبادر الرئيس أبو مازن إلى فعل يعكس تجاه التطورات في الساحة الفلسطينية) فإنه لا يضيرني إعادة نشر ما كتبته في مقال سابق (يوم 3.2.2017): «انتهى كتاب الزعيم العربي، جمال عبد الناصر، الذي صدر عام 1954، وهو كتاب «فلسفة الثورة» بفقرة واضحة تتحدث عن «دور» يبحث عن «بطل».