شاركت برفقة عدد من الزملاء في تحرير كتاب بعنوان: « Bioethics Amidst the COVID-19 Pandemic» الذي صدر هذا الأسبوع على صفحات الفضاء الإلكتروني نناقش فيه المستجدات التي طرأت في مجال الأخلاق الطبية التي ترتبت بسبب جائحة كورونا. فقد عودتنا الكوارث الطبيعية عبر التاريخ على ولادة الكثير من المفاهيم الجديدة التي لم نألفها من قبل والمستجدات غير المسبوقة والتحديات المستحدثة والتي تستدعي منا التوقف عندها والبحث فيها.
فعلم الأخلاق الطبية ليس علما حديثا، فمنذ فجر الطب أدرك الآباء المؤسسون لهذه المهنة أهمية وضع ضوابط أخلاقية تنظم عملها؛ فها هو قسم أبقراط (أبو الطب) وهو عبارة عن ميثاق شرف كان قد حدد فيه أسس ومعايير وأخلاقيات مهنة الطب منذ القدم والذي ما يزال على صلة وثيقة بأخلاقيات الطب في العصر الحديث. أما الحضارة العربية الإسلامية فقد تركت بصماتها الواضحة في التأسيس للبعد الأخلاقي للطب تحت المظلة الأساسية للشريعة التي اعتبرت حفظ النفس البشرية ثاني مقاصد الشريعة بعد حفظ الدين.
ثم جاءت أحداث مفصلية تاريخية في القرن الماضي لتضع الأسس القانونية والأخلاقية للبحث العلمي وحماية الأشخاص الخاضعين للتجارب العلمية من خلال قانون نورمبرغ وإعلان هلسنكي.
لكن الجائحة الحالية والتي ما زلنا نعاني من آثارها حتى يومنا هذا واجهتنا بثلة من التحديات الأخلاقية والتي أثارت الكثير من الجدل سواء بين أروقة المؤسسات المتخصصة أو حتى في فضاء الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، ففي بدايات ظهور الجائحة، برز سؤال مقلق حول الاستخدام الأمثل للموارد الشحيحة مثل أجهزة التنفس وأسرة المستشفيات سواء بين مصابي الفيروس أو المرضى الآخرين الذين يعانون من الأمراض المزمنة، وما هو المعيار الذي يحدد الأولوية في الحصول على هذه الموارد، هل هو عمر المريض أم خطورة وضعه الصحي أم أهميته للمجتمع؟ وهي أسئلة تتعدد الاجتهادات فيها حسب موقع الشخص المُستفتى، فخياراتنا تخضع للتحيز وعدم الموضوعية وفقا لموقعنا من الحدث.
أما موضوع الموازنة بين الحرية الشخصية والسيطرة على الوباء، فقد سال حولها الكثير من الحبر، وهو جدل تاريخي لكنه اكتسب بعدا آخر خلال الإغلاقات واستخدام أدوات التكنولوجيا الحديثة في مراقبة الناس واستباحة خصوصياتهم.
وكان للقاحات نصيبها من الجدل الأخلاقي الدائر بين مرحب بإجباريتها وبين متمسك بحق الشخص وحريته في قبول أو رفض ما قد يحقن في جسده، وما يزال هذا الجدل حاضرا حتى الآن.
كما كان للتحيز وغياب العدالة في توزيع اللقاحات بين الشمال الغني والجنوب الفقير موقفا من الجدل الأخلاقي، حيث استحوذت دول الشمال الغنية على كميات هائلة من اللقاحات تفوق حاجتها تاركة الدول الفقيرة تستجدي هذه اللقاحات وتئن تحت وطأة الفقر والوباء.
لا شك أن هذه الجائحة قد مست جميع البشر، كما مست أفراد الكوادر الطبية الذين تركوا عزلا يواجهون الوباء في معركة غير متكافئة مع الفيروس، فهم لم يكونوا يمتلكون الأدوات ولا التدريب اللازم للمواجهة، وكانوا هم الفئة الأكثر تأثرا بالجائحة سواء نفسيا أو جسديا. فظاهرة هجر المهن الطبية بدأت تطفو على السطح وبدأت الآثار السلبية لهذه الجائحة تظهر للعيان على هذه الكوادر من خلال تسجيل ارتفاع في نسبة إصابتهم بالأمراض النفسية والاكتئاب والتي كان سببها الضغوطات النفسية والقلق والخوف وغيرها أثناء تأديتهم لواجبهم الطبي والمهني في ظل الجائحة.
لقد خلقت جائحة كورونا الكثير من التحديات على مختلف الأصعدة الاجتماعية والنفسية والإقتصادية والسياسية والأخلاقية فعندما تكون المسألة مستجدة والمشكلة غير مطروقة، وحين نفتقد إلى الإلتزام بالنماذج الأخلاقية الرفيعة ذات الصلة، عندها يقع الإنسان في حيرة من أمره ويعود لقراءة التاريخ عله يجد حوادث مشابهة يستطيع القياس عليها.