قضايا وآراء

لماذا فشِلَ مُدّعو النبوّة بينما نجح محمد؟

1300x600
بين الفينةِ والأخرى، يُطِلُّ علينا شخصٌ من هنا أو هناك يدّعي النبوّة، ويزعمُ أنه يتواصل مع السماء، ويتلقّى الأوامر منها بشكلٍ مباشر، ويُطالبُ الناسَ بتصديقه واتّباعه، بل تجده أحياناً يتوعّدُ كلّ من يخرج عن مشورته بالزلازلِ والكوراث، وكأنّه نالَ القدرة ذاتَها التي نالها الأنبياءُ الحقيقيون الذين اصطفاهم اللهُ عزّ وجل لهداية الناس..

لم يكنِ مُدّعي النبوة الذي ظهرَ مؤخّراً في لبنان هو الأول في هذا الزعم، بل سبقه إلى ذلك الكثيرون في بلدانٍ أخرى، كالعراق وفلسطين واليمن وأفغانستان، ولا أعتقد أنه سيكون الأخير، بل سوف تُطالِعُنا في الأيام القادمة وجوهٌ جديدة ما أنزلَ اللهُ بها من سلطان، على الشاكلةِ ذاتِها، يظهرون ثم يتحدثون، ثم يحاولون ويحاولون، ثم يتحوّلون إلى مادةٍ دسمة للسخرية والتهكّم، ثم إلى أضحوكة السمر والكوميديا، ثم يتلاشون رويداً رويداً..

ولكنّ السؤال الجوهري الذي يُباغتني كلما ظهرت نسخةٌ جديدةٌ من هؤلاء القوم، وكيفية تعامل المتابعين معهم هو: لماذا فشلوا جميعاً فشلاً ذريعاً وفي متناولِ أيديهم كَمٌّ هائلٌ من التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي التي تستطيع إيصالهم بالصوت والصورة إلى أقصى بقاع الأرض، كما أنّ المرءَ منهم يستطيع أن يخاطب الكوكبَ كُلّه من خلال كبسةِ زر (مباشر) على صفحته في فيسبوك، وبإمكانه أن ينقل مافي جعبته إلى الناس خلال دقائق معدودات، ويستطيع الكائن البشري الذي يعيش في خبر كان أن يسمعَ النبأَ العظيم، ليس هذا فحسب، بل بإمكانه أيضاً أن يرى النبيّ الجديد على الهواء مباشرةً، فتصلُهُ الرسالة النبوية على طبقٍ من ذهب دون الحاجةِ إلى الكدّ والتعب، ولا ضيرَ في مراسلةِ النبي والتحدث معه أو الوصول إليه عبر وسائل النقل الحديثة للاستفادة من حكمته ونبوّته؟..

لماذا فشل هؤلاء رغم كل هذه الإمكانيات، وذهبوا إلى دهاليز النسيان، فَنَسِيَهُم القوم وكأنهم ما كانوا؟ وأتحدّاك أيها القارئُ العزيز أن تكون في هذه اللحظةِ على درايةٍ باسمِ واحدٍ منهم فقط، أو تستذكرَ شيئاً ممّا قالَ أو ادّعى، أو تستحضرَ صورهم وشيئاً من شخصياتهم.. لا لن تستطيع أبداً.. لماذا؟ لأنهم كاذبون وقد ذهبوا وأسماؤهم وما قالوه وافتروه أدراجَ الرياح..

بينما..

بينما نجد أنّ ذلك الراعي اليتيم، الذي كان في بيداء مُقفرة، على دابّةٍ تأكلُ من حشاش الأرض، قد نجحَ في إثباتِ جدارةِ رسالته، وصِدْقِ نُبوّتِه، واخترقَ هذا العالم انطلاقاً من غارٍ مهجورٍ لا يوجدُ فيه حتى إبريقُ ماء، وأحدَثَ تغييراً مُمنهجاً في عقيدةِ الخلائقِ، بعد أن جاء بالدين الحنيف الذي لا يعرفُ الطَيَّ والنسيان. واستمرّ في دعوتِه التي عاشت مراحلَ قاسية لو مرّت على جبلٍ أشمّ لأهلكته وجعلته يتراجعُ عن هدف الرسالة الأسمى، لكنّه لم يتراجع، وبنى دولةً لها امتدادٌ أبديٌّ وحضارةٌ سرمديّةٌ ما يزالُ العالم يتغنى بها في بلاد الأندلس، وجاءَ بكتابه الذي زوّده به اللهُ تعالى، متحدّياً البشرَ قاطبةً حتى قيام الساعةِ أن يهزموا هذا الكتاب المعجزة أو يمحوه أو يُحدِثوا به خللاً أو تحريفاً، أو ينزعوا قدسيّته من قلوبِ مَن أحبّوه..

إنّ نجاحَ مُحمّد عليه الصلاة والسلام في استمراريةِ رسالته هو أكبرُ دليلٍ على أنّ هناك قوّةً لا تُقهَر تقفُ معه وتسانده في مواجهة كل الخصوم والتحديات، وإلاّ لماذا صمدَ اسمُه وذِكْرُه رغم كل محاولات التشويش والإساءة، سواء كان ذلك في عهده عليه الصلاة والسلام، أم من بعد وفاته. فالكثيرون من المتربّصين حاولوا تسليط الضوء على جوانب من سيرته النبوية، بُغيةَ الاصطياد في الماء العكر، وبغيةَ الحدّ من انتشار الدين الإسلامي، فتجدهم تارةً يسلّطون الضوء على قضية زواجه من السيدة عائشة رضي الله عنها وهي في سنّ مبكرة، ويُزاودون علينا بالعفّةِ في حين أنّ كلامهم لو كان صحيحاً لوجدنا خصومَ مُحمدٍ آنذاك هم أول من انتقدَ زواجه من عائشة. ولكنّنا ما عثرنا على كلمةٍ واحدةٍ منسوبة إلى ذلك الزمن تُعِيبُ على النبيّ زواجه من عائشة، وهذا ما يُثبِت بطلان افترائهم على رسول الله، وأنّ القضية كانت مألوفة وطبيعية في ذلك الزمن.

كما أنك تجدهم تارةً أخرى يُسلّطون الضوء على قضيةِ زواجه من طليقةِ خادمه زيد رضي الله عنه، وتارةً أخرى ينهضون بملف السبايا ومُلْك اليمين، وتارةً أخرى يتناولون علاقةِ النبي بزوجاته، وذلك بهدف إقناع الناس أنّ المرأة في دينِ محمد ناقصةُ عقلٍ ودينٍ وكرامة، في حين أنّ مُحمداً ودينَ مُحمّد هما أشرفُ من صانَوا المرأة وحافظَوا على كرامتِها، وأوصوا بالإحسانِ إليها، أمّاً وزوجة وبنتاً وأختاً وضلعاً للرحم، في الوقت الذي تغصُّ فيه بلادُهم بمآوي العجزة التي تعتبَر عنواناً للتخلي عن الأم العجوز، والشوارع الحمراء التي تُوْطَأ فيها الفتياتُ الحسناواتُ بمبلغ ثلاثين دولار..

ورغم كل المحاولات الرامية إلى إنهاء رسالةِ محمّد إلّا أننا نستطيع أنْ نُثبِت عكس ذلك من خلال الدراسة التي أجراها المركز الأمريكي للأبحاث (بيو) والتي أكّد فيها أنّ الإسلام سوف يصبح أكثر الأديان انتشاراً في العالم بحلول العام 2027م، في حين ذكرَ موقع "Baby center" البريطاني أنّ اسم مُحمّد هو الاسم الأكثر شعبية في البلاد لعام 2021. حتى داخل دولة الاحتلال الإسرائيلي أصبحَ هذا الاسم هو أكثر الأسماء شعبية، رغم مسيرة الأعلام التي نظمها مجموعة من المستوطنين داخل المسجد الأقصى المبارك بعد معركة سيف القدس، وشتموا فيها النبي محمداً عليه الصلاة والسلام.

كما أنّ الخبير العسكري الأمريكي ريتشارد غابريل أعدّ بحثاً مُطوّلاً عن الخبرة العسكرية للنبي محمد في المجالات كافة، حيث وصفه بالقائد الثوري والعسكري العبقري والمفكّر الاستراتيجي، وذلك بسبب قدرته على بناء التحالفات وخوض ما أسماها الحروب السياسية والمفاوضات الشرسة مع خصومه، وصولاً إلى قدرته على نشرِ دينه، فسبحان الله العظيم حين خاطبَ نبيّه محمداً عليه الصلاة والسلام قائلاً له: "ورفعنا لك ذِكْرَك"..

آنَ الأوانُ لأنْ يضعَ هؤلاء النفر أقلامهم جانباً، ويعترفوا بالرسالة المحمّدية التي ما تزال تُثبِتُ ارتباطَها برب السماء يوماً بعد يوم..