تنزع القوى الخارجية التي تنظر إلى الشرق
الأوسط نحو التركيز على قضايا السياسة العليا. وقد يعميها ذلك التركيز عن العوامل
المحلية والإقليمية والعالمية التي تحفز التوترات السياسية والطائفية والصراعات
المسلحة الجارية في مختلف أنحاء المنطقة العربية. يقبع تحت المناورة السياسية نمط
خطير من التهديدات البنيوية الجديدة والعميقة التي تلاقت ضمن دائرة من الفقر
وانعدام المساواة والاستضعاف الذي يبدو من المحتمل أن يبقي المنطقة غارقة في
مستنقع من الإجهاد والصراع لعقود قادمة. تفاقم هذه التهديدات من التناقضات
والاشتباكات العسكرية الموجودة في أرجاء المنطقة، وتزيد من التوترات الاجتماعية،
وتقود في النهاية إلى تفتيت كل واحد من الأقطار على حدة بل والمنطقة العربية
الأوسع بأسرها، والتي تمتعت خلال القرن الماضي ببعض المشتركات وحد أدنى من
التكامل.
تشتمل هذه التهديدات، بشكل بارز، على الفقر
المزمن والمتزايد، بالإضافة إلى معدل مرتفع من العمالة الشكلية، وزيادة في انكشاف
الأسر متوسطة الدخل، وارتفاع مستمر في معدلات النمو السكاني التي تتجاوز النمو
الاقتصادي، واتساع هوة التباينات والفروقات في كل قطاع تقريباً من قطاعات الحياة
والمجتمع. وإذ تنضم كل هذه إلى التظلمات السياسية والمادية الأخرى التي باتت شائعة
بين أغلبية المواطنين (شح المياه والغذاء وعدم توفر السكن الكريم، وضعف المشاركة
السياسية وانعدام المحاسبة، وغير ذلك) فإنها تؤدي إلى تلاشي ثقة المواطن بالمؤسسات
الحكومية وتفضي إلى مزيد من الإقصاء بين العائلات التي تعاني من نوعين من الألم:
فهي تشعر بأنها لا تعامل بشكل مكافئ، وتشعر بأنها عاجزة عن عمل أي شيء إزاء الوضع
الذي هي فيه.
تنزع الحكومات العربية ورعاتها في الخارج نحو
التركيز على التهديدات الخطأ. فمعظم الحكومات العربية مستمرة في إحداث إصلاحات
سطحية في القطاعات المحورية مثل التعليم والتوظيف ومكافحة الفساد، إلا أن جهودها
تبقى إلى حد كبير غير ناجحة أو يبقى أثرها محدوداً. وفي نفس الأثناء يشهد التوجه
العربي الأوسع في معظم البلدان منذ نهاية الحرب الباردة قريباً من العام 1990
تزايداً مطرداً في الإفقار والاستضعاف والشعور بالظلم والعجز والتفاوتات. ورغم أن
مدى وأسباب وتبعات هذا التوجه المزعج واضحة وضوح الشمس، لكن لا يبدو أنها تستثير
أي تجاوب جاد من قبل الحكومات العربية. فالمنطقة العربية، وكثيراً من البلدان كل
واحدة على حدة، تتعرض للتمزيق تحت وطأة تداعيات عقود من الحكم المستبد الفاقد
للأهلية، وما يرافقه من تدخلات عسكرية أجنبية مستمرة وآثار الصراع العربي
الإسرائيلي المستمر منذ قرن من الزمن.
بدأت أعراض الأزمة الشاملة في الظهور قبل عدة
عقود. وكان يمكن لها أن تخفف بسلاسة أكبر منذ البداية لو أن الحكومات كانت أكثر
فعالية في وضع يدها على القضايا التي يعاني منها المواطن وعمدت إلى معالجتها،
وبشكل خاص الفساد وعدم كفاية الوظائف الكريمة، وتفشي المحسوبية في مؤسسات الدولة
وتراجع المعايير التعليمية. بدلاً من التعامل مع هذه الإرهاصات المبكرة للفشل
الكلي الخطير داخلياً، ركزت الأنظمة على الأمن العسكري والقمع الداخلي. وكانت
النتيجة هي مفاقمة المشاكل التي تتربص بالتماسك الاجتماعي والسلامة الوطنية بدلاً
من معالجتها، الأمر الذي ساهم بالتالي في تنشيط هجرة الشباب المتعلم، وانهيار
الأحزاب السياسية، وظهور الفئات الطائفية والجماعات المتشددة، ووسع بشكل مطرد
قاعدة الانتماء إلى الحركات الإسلامية سواء غير العنفية أو المتشددة.
الفقر وعدم المساواة والأزمة الاقتصادية
الشاملة
وصل الفقر والانكشاف في المنطقة العربية إلى
مستويات أعلى بكثير مما كان يحسب، لدرجة أن ثلثي المواطنين يقعون ضمن فئة الفقراء
أو المعرضين للإفقار. وذلك أن وقائع تدهور عافية العائلة استترت وراء قناع من قياسات
الفقر السائدة والتي ترتكز على الإنفاق اليومي، وهي قياسات لا تميز بدقة توجهين
مهمين: وجود مستويات مرتفعة من الفقر ووجود مستويات متنامية من الانكشاف بين
العائلات التي كانت تحسب على الطبقة الوسطى أو على فئة ذوي الدخل المتوسط، ولكنها
ما لبثت أن غدت ضمن الفئات الفقيرة أو المعرضة للإفقار.
أجرت العديد من المؤسسات الدولية في السنوات
الأخيرة أبحاثاً مهمة، ومنها برنامج الأمم المتحدة الإنمائي والهيئة الاقتصادية
والاجتماعية لغرب آسيا في الأمم المتحدة (إسكاو) والبنك الدولي، مستخدمة قياس
الفقر متعدد الأبعاد لقياس مستويات الفقر والانكشاف بشكل أدق مما كان حاصلاً من
قبل من اعتماد على المقاييس المترية المالية مثل 1.25 دولاراً أو 1.9 دولاراً من
الإنفاق اليومي. يوفر مؤشر الفقر متعدد الأبعاد الذي نشره برنامج الأمم المتحدة
الإنمائي ومبادرة أكسفورد للفقر والتنمية البشرية معلومات ممتازة حول القضية (https://hdr.undp.org/en/2018-MPI).
كما أن
مقاربة الفقر متعدد الأبعاد توفر قياساً أدق لأوضاع الحياة الحقيقية للعائلات
لأنها تركز على مجموعة من المؤشرات المهمة المتعلقة بالصحة والتعليم ومستويات
المعيشة (بما في ذلك التغذية ووفيات الأطفال وسنوات التعليم في المدارس، والنظافة،
والكهرباء، ومياه الشرب، والممتلكات، وغير ذلك من الأمور).
تشير أرقام قياس الفقر متعدد الأبعاد إلى وجود معدلات فقر أربع مرات
أعلى مما كان مفترضاً من قبل (وذلك جزئياً بسبب أن قياس الفقر متعدد الأبعاد يلتقط
معلومات عن الفئات الأغنى والفئات الأفقر في المجتمع، وهي معلومات لم تكن قياسات
الإنفاق المالي المترية تلتقطها). لقد تم في عشر دول عربية شملها مسح الإسكوا
تصنيف 116 مليون نسمة ضمن الفقراء (أي ما نسبته 41 بالمائة من التعداد الإجمالي
للسكان) بينما صنف ما نسبته 25 بالمائة من السكان ضمن فئة المعرضين للفقر. زادت
نسبة الفقراء في مصر من 19.5 بالمائة في عام 2005 إلى 28 بالمائة في عام 2015. إذا
ما كان هذا المستوى من الفقر / التعرض للفقر عند نسبة 66 بالمائة ينطبق على العالم
العربي بأسره، فهذا يعني أن 250 مليون نسمة قد يكونون فقراء أو عرضة للفقر من مجمل
تعداد السكان في العالم العربي البالغ 400 مليون نسمة. بحسب ما صرح به الاقتصاديون
في إسكوا، الذين قاموا بتحليل الظاهرة، فقد انكمشت الطبقة الوسطى في الدول غير
المنتجة للنفط من 45 بالمائة إلى 33 بالمائة من السكان. يرى هؤلاء الاقتصاديون بأن
العائلات متوسطة الدخل آخذة في الانحدار نحو فئة المعرضين للفقر، بينما تنحدر
العائلات المعرضة للفقر بدورها نحو فئة الفقراء.
بقيت العوامل التي تزيد من حالة الفقر أو الانكشاف قائمة، بل لعلها
ازدادت سوءاً، منذ الانتفاضات العربية التي انطلقت في الفترة من 2010 إلى 2011.
ومن المحتمل أن تدفع بمزيد من العائلات نحو الفقر أو الانكشاف لسنوات عديدة قادمة
إذا ما أخذنا بالاعتبار الوقائع الحالية في الإقليم (الحروب، تقلب إيرادات السياحة
والعقارات وتراجع مستويات الاستثمار الأجنبي المباشر، وانخفاض مستويات الأجور
الفعلية، وركود النمو الاقتصادي وتراجع التحويلات المالية من قبل العاملين، وعدم
كفاية الجهود التي تبذل لإيجاد فرص عمل جديدة، وعدم إمكانية الوثوق بمستويات
المساعدات الخارجية، هذا إذا اكتفينا بذكر أهم تلك الوقائع). يبدو أن هذا التوجه
يرتبط بشكل مباشر بالتراجع المطرد مؤخراً في جودة الخدمات الاجتماعية الأساسية
التي تديرها الدولة، وبشكل رئيسي خارج منطقة الخليج، بما في ذلك في مجالات الرعاية
الصحية والتعليم والمياه والكهرباء والنقل، وشبكات السلامة الاجتماعية. وحسبما
تشير حسابات الإسكوا، فإن عدد العرب الذين يحتاجون إلى مساعدات إنسانية من أجل
البقاء على قيد الحياة بحد أدنى من الرعاية الصحية يقدر بما يقرب من ستين مليون
نسمة يتوزعون على سبعة دول متأزمة. وهؤلاء يشملون كثيراً من الثلاثين مليون نسمة
الذين أجبروا على النزوح خلال السنوات الأخيرة في مختلف أرجاء المنطقة العربية.
وبمجرد أن تقع العائلات في الفقر فمن المحتمل أن تبقى هناك لأجيال
قادمة. لقد اختفى النمو المطرد على نطاق واسع في الوظائف في قطاعات الصناعة
والسياحة والزراعة والخدمات، والذي استوعب الوافدين الجدد على سوق العمالة في
النصف الأول من القرن الذي بدأ في الخمسينيات. وبحسب ما صدر من توقعات عن صندوق
النقد الدولي وغيره من المؤسسات فإن المنطقة العربية بحاجة إلى إيجاد ما بين ستين
إلى مائة مليون وظيفة بحلول عام 2030 وإلى سبعة وعشرين مليون وظيفة خلال السنوات
الخمس القادمة من أجل تقليص البطالة بشكل ملحوظ. لا يخفى أن القيام بهذه مهمة يتجاوز
قدرات منظومة الدولة العربية الحالية وما فيها من قطاع خاص. وهذا يشير إلى أن
العمالة غير الرسمية ستبقى سائدة لسنوات قادمة في معظم الأراضي العربية (بمعدل
يتراوح ما بين 55 إلى 60 بالمائة حسب بعض التقديرات الأخيرة). وهذا يعني أن علينا
توقع استمرار نمو الفقر والانكشاف بسبب تقلب الأجور وتدنيها ومعاناة العمالة غير
الرسمية من انعدام إجراءات الحماية. كما أن الفقر المرتبط بالعمالة غير الرسمية ما
هو إلا واحد من تداعيات مخرجات التعليم المتردية، حيث تشير بعض التصنيفات
الاختبارية العالمية إلى أن ما يقرب من نصف طلاب المدارس الابتدائية والثانوية في
مختلف أرجاء المنطقة العربية لا يتعلمون، وأن كثيرين منهم سيتركون الدراسة قبل
إتمام التعليم الابتدائي أو التعليم الثانوي.
يفاقم ذلك من تداعيات بعض أسوأ هذه التوجهات
لأن مؤشرات تدني مستوى تعليم أفراد الأسرة وسوء التنمية في مرحلة الطفولة المبكرة،
بما في ذلك توقف النمو الذي بات أكثر شيوعاً، تعتبر الآن من بين أوضح المؤشرات على
أنه بمجرد أن تصبح العائلات فقيرة اليوم فلسوف تصبح أسيرة للفقر والتهميش على
المدى الطويل. ويبدو أن الفقر طويل المدى الذي يتناقل عبر الأجيال بات أمراً
محتوماً الآن بالنسبة للعائلات التي تعاني من تراجعات قصيرة المدى في دخلها، لأن
معظم الدول العربية غير قادرة على توليد وظائف كريمة جديدة أو توفير الخدمات
الاجتماعية المطلوبة من أجل إنقاذ العائلات الفقيرة والمنكشفة وإخراجها من أوضاعها
البائسة.
تشير الدراسات الأخيرة بأن الشرق الأوسط هو
أكثر منطقة تعاني من عدم المساواة في العالم، حيث يستحوذ 10 بالمائة من سكانه على
61 بالمائة من الثروة (مقارنة بما نسبته 47 بالمائة في الولايات المتحدة وما نسبته
36 بالمائة في أوروبا الغربية). بات موثقاً انعدام المساواة في كل واحد من جوانب
الحياة والمجتمع تقريباً، بما في ذلك التباين بين الحضري والريفي، والتباينات
الجندرية والعرقية، والتباين في الدخل وفي غيرها، بما يفيد بأن تلك باتت مشكلة
بنيوية راسخة وعميقة بدلاً من مجرد ظاهرة عابرة ناجمة عن اضطرابات اقتصادية قصيرة
المدى.
اندمج الفقر والانكشاف وعدم المساواة في
حركية واحدة غدت راسخة بعمق في الوقائع الاقتصادية القائمة وفي الاعتلالات التي
تشوب سياسة الدولة، والتي لا تبدو عليها أمارات التغير، وبالتالي سيكون من الصعب
عكسها على المدي القصير. حتى أن بعض الدول العربية (بما في ذلك مصر) عكست توجهاً
استمر لعقود مؤخراً وسجلت ارتفاعاً في معدلات الخصوبة خلال السنوات الخمس الماضية،
الأمر الذي سيزيد من عبء الضغوط الديموغرافية على الاقتصاد والأنظمة الاجتماعية
التي لم تكن قادرة على مواكبة النمو السكاني حتى عندما كانت معدلات الخصوبة في
تراجع خلال العقود الأخيرة. يولد ما مقداره تسعة ملايين عربي كل عام (ما يقرب من
مليونين يولدون في مصر لوحدها)، وكل هؤلاء بحاجة إلى التعليم والخدمات الصحية
والإسكان والمياه والوظائف التي تعجز الدول العربية حالياً عن توفيرها لمن يوجد
فيها الآن من سكان.
لو تجاوزنا الألم الذي يجلبه هذا الوضع
للعائلات الفقيرة والمنكشفة، فهناك الأخطار الإضافية التي تعاني منها المجتمعات،
مثل الانقسام والتفتت، وانعدام الاستقرار السياسي والتوترات الاجتماعية والطبقية
والطائفية، والفجوة المتنامية بين المواطن والدولة، وفي بعض الأوقات العنف
السياسي، وانتشار الجريمة والهجرة غير القانونية. في هذه الأثناء، لا تفعل القوى
الخارجية الكثير لمعالجة هذه المشاكل الاجتماعية والاقتصادية الكبيرة، وفي معظم
الحالات تتخذ موقفاً داعماً لسياسات الأنظمة، مما يفاقم من سوء الأوضاع.
النموذج الأردني
يقدم الأردن نموذجاً مناسباً للكيفية التي
تؤدي بها الضغوط الاجتماعية والاقتصادية والسياسية على العائلات إلى توترات أوسع
نطاقاً في المجتمع، وتولد في نهاية المطاف انقسامات خطيرة بين الموطنين ودولتهم.
فمنذ أواخر تسعينيات القرن الماضي وحتى عام 2018، زاد الأردنيون بشكل كبير من
إحساسهم بالظلم وانعدام المساواة في حياتهم، وخاصة من حيث تعامل الدولة ومؤسساتها
معهم. يظهر من البيانات التي وفرتها استطلاعات الرأي التي تجريها مؤسسة ناما
الاستشارية المحترمة، والتي يديرها الدكتور فارس بريزات، أن نسبة من يقولون بأن
العدالة لا وجود لها في حياتهم قد زادت من 8 إلى 24 بالمائة خلال تلك الفترة، وأن
الإحساس بعدم المساواة زاد من 10 إلى 30 بالمائة.
تكون هذه المشاعر مرتفعة بشكل خاص في المناطق
الريفية وبين أولئك الذين هاجروا من الريف إلى المراكز الحضرية خلال العقود
الأخيرة. يعتمد معظم هؤلاء المواطنين على وظائف الدولة أو على غير ذلك من الدخل
الذي توفره الدولة لهم، ولم يستفيدوا من الاستثمارات في القطاع الخاص ولا من
وظائفه، ووجدوا أنفسهم خلال العقود الأخيرة، وبشكل متزايد، غير قادرين على توفير
الاحتياجات الأساسية لعائلاتهم. تكشف الاستطلاعات التي أجرتها ناما وكذلك مركز
الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية، عن بعض التوجهات المقلقة في المعاناة
الاقتصادية والسياسية على مستوى العائلة، بما في ذلك المشاعر الحرجة بانعدام
العدالة، والتي يبدو أنها من المحفزات الأساسية لما ينظم من احتجاجات ضد الحكومة.
زادت نسبة الأردنيين الذين لا يرون عدالة في
حياتهم من 40 بالمائة إلى 46 بالمائة خلال أربعة شهور فقط من يونيو / حزيران إلى
سبتمبر / أيلول من عام 2018. وبينما يشعر ثلثا المواطنين بأن البلاد تسير في
الاتجاه الخاطئ، قال 72 بالمائة من العائلات إنهم لا يستطيعون توفير النفقات
الأساسية لمعيشتهم (مقارنة بما نسبته 42 بالمائة في منتصف عام 2011)، وقال ثلثا
العائلات بأن وضعهم الاقتصادي أسوأ مما كان عليه قبل سنة. كما أن عدم القدرة على
توفير الاحتياجات الأساسية للعائلة، أو مجرد التمكن من ذلك دون القدرة على توفير
أي مال، تعكسه استطلاعات الرأي التي أجريت على مستوى الإقليم من قبل الباروميتر
العربي والمركز العربي للأبحاث والدراسات السياسية الذي يتخذ من الدوحة مقراً له،
وكلاهما يستشف من استطلاعاتهما التي أجريت على مستوى العالم العربي أن ما بين 70
إلى 75 بالمائة من العائلات لا قبل لها بدفع تكاليف احتياجاتها الأساسية.
مثل هذه العائلات، أو الأفراد، لا يمكنهم في
العادة الاستفادة من موارد الدولة لا من خلال ممثليهم من أعضاء البرلمان ولا غير
ذلك من مؤسسات الدولة، ويجدون أنفسهم في نهاية المطاف غير قادرين على تحسين
أوضاعهم المعيشية أو ضمان مستقبل كريم لأطفالهم. وتجدهم ينزعون إلى التعبير عن
أعلى مستويات من الشعور بتفشي الفساد في البلد، بالإضافة إلى الاحباطات الناجمة عن
شعورهم بأن النظام غير منصف وأنه يميز ضدهم، كما يقول بريزات. ويكون ردهم في
العادة أن يبادروا إلى "إقصاء أنفسهم عن منظومة الدولة" كما يقول،
ويجدون ضالتهم في ساحات أخرى يلوذون بها، مثل العشيرة أو الدين أو الجماعات
الأيديولوجية المتشددة. وقال في مقال نشر له في أكتوبر / تشرين الأول من عام 2018:
"إن تدني الإحساس بالفرص المتكافئة وترافق ذلك مع ارتفاع في الإحساس بالإحباط
الاقتصادي وخيبة الأمل العامة والتوقعات السلبية، كل ذلك يشير إلى مزاج شعبي مشابه
لما ساد في الفترة من إبريل / نيسان إلى مايو / أيار من عام 2018 عندما أطاحت
الاحتجاجات الشعبية بالحكومة السابقة التي كان يترأسها هاني الملقي." وأضاف:
"ينبغي أن يكون هذا الدعم السلوكي الشعبي الكبير للعمل الاحتجاجي مقلقاً
للسلطات."
والحقيقة هي أن مثل هذه المشاعر الناجمة عما
تتعرض له العائلة اقتصادياً من ضغوط وعن الإحساس بعدم المساواة وبتفشي الفساد
ينبغي أن تكون مقلقة للسلطات في كل أرجاء المنطقة العربية، إذا ما أخذنا بالاعتبار
الواقع المخيف لمدى عمق وشدة هذه القوى ومدى ندرة ما يتم اتخاذه من إجراءات لإصلاح
هذه الأوضاع. ومن الأردن أيضاً تأتي بعض المؤشرات ذات العلاقة بصلب الموضوع، حيث
استؤنفت الاحتجاجات الأسبوعية أمام مقر رئاسة الوزراء منذ أواخر عام 2018، بعد ستة
شهور من انطلاق الاحتجاجات الأولى التي أفضت إلى تغيير الحكومة. وقد يكون السبب في
ذلك هو أن معظم الأردنيين من الطبقة الوسطى والطبقة الفقيرة لم يشعروا بأن قانون
الضرائب الجديد أحدث تغييراً ملموساً في أوضاعهم المعيشية.
الخلاصة
تشير الاحتجاجات التي شهدها الأردن وسائر
المنطقة العربية (السودان، الجزائر، العراق، تونس، لبنان، وغيرها من الأماكن) إلى
حقيقة أن المواطنين أرهقوا بسبب مزيج من العوامل السياسية والاجتماعية الاقتصادية
التي تؤثر في حياتهم. يعاني الكثيرون من أوضاع اجتماعية اقتصادية مقلقة وكذلك من
عدم توفر السلطة السياسية لديهم لمعالجة القضايا الملحة مثل الفساد ومحاسبة النخب
السياسية ناهيك عما يعاملون به من ازدراء على يد دولتهم (وأكثر الأمثلة دلالة على
الحالة الأخيرة هي رغبة النخبة الحاكمة في الجزائر في ترشيح الرئيس عبد العزيز بوتفليقة
لفترة رئاسية خامسة، على الرغم مما كان فيه من حالة إعاقة ذهنية وبدنية شبه تامة،
الأمر الذي يثير السخرية حول فكرة أن الانتخابات الرئاسية تشكل فرصة أمام
المواطنين للتعبير عن آرائهم السياسية).
بدأت هذه القوى الداخلية المؤثرة، والمعبرة
عن السخط والاحتجاج الجماهيري من قبل معظم المواطنين في مختلف أرجاء المنطقة
العربية، في التأثير على السياسات الخارجية للدول وعلى علاقاتها الدولية وبشتى
الطرق. في كثير من الأوضاع حيث يعاني الملايين من المواطنين من فقر وتهميش مستمر
ينجم عنهما اتساع الهوة بين الدولة والمجتمع، تنضم أعداد كبيرة من الناس (وخاصة
الشباب العاطلون عن العمل) إلى غيرهم من تجمعات المنكشفين والمستضعفين والذين يسهل
تجنيدهم من قبل الجماعات الإرهابية والمتشددة وغير ذلك من المنظمات التي تؤثر على
الهدوء المحلي وعلى العلاقات الدولية. وفي بعض الحالات يُستنفر المواطنون لكي
يعبروا عن سخطهم على سياسات بلدهم تجاه إسرائيل (كما حدث في الأردن في عام 2018،
عندما خضع الملك للضغط الشعبي وألغى مادة في اتفاق السلام لعام 2004 مع إسرائيل
يسمح لإسرائيل بالاحتفاظ بالسيطرة على بضعة أراضي أردنية في وادي الأردن). كما أن
الأوضاع المتقلبة التي تثيرها أعداد ضخمة من المواطنين الساخطين تدفع بالكثيرين من
أفضل المواطنين تعليماً نحو الهجرة، الأمر الذي يحرم البلد من المهارات والطاقات
الشبابية التي هو في أمس الحاجة إليها لكي يتمكن من التغلب على الركود الاجتماعي
الاقتصادي وعلى المشاكل السياسية المتربصة به.
وأخيراً، عندما تزيد الحكومات من الإجراءات
الأمنية وتشدد من القيود المفروضة على المواطنين لضمان "الاستقرار"، كما
تفعل معظم البلدان العربية منذ عام 2011، تكون النتيجة في العادة هي عكس المراد
تماماً، حيث سترتفع معدلات السخط الشعبي، وتعمد النخب الحاكمة إلى توسيع رقعة
نفوذها والشبكات التابعة لها، ويستمر الاقتصاد في حالة من الإعاقة بدون أي نمو أو
استثمارات جديدة، وتعتمد الدولة على المزيد ثم المزيد من الأمن والتمويل الخارجي
لتدعيم وجودها، وتبدأ دورة السخط الذي انفجر في الفترة من 2010 إلى 2011 في بناء
الزخم من جديد. ينبغي أن يحفز ذلك خبراء العلاقات الدولية – وكذلك النخب الحاكمة
في البلدان العربية المعنية – للتدقيق بتمعن أكبر في الأوضاع الداخلية المزرية
لهذه البلدان، وخاصة في الذهنية التي تكرست لدى مئات الملايين من المواطنين الذين
ستحدد سلوكياتهم وتصرفاتهم في نهاية المطاف مصير تلك
المجتمعات والاتجاه الذي ستمضي فيه المنطقة بأسرها.